(1) عندما تخضع الوظيفة العامة لمعايير الخبرة والكفاءة والنزاهة والمواطنة سأقول: إن النوايا صادقة، وأن المصداقية في مكافحة الفساد واردة، والمساندة في هذا الجانب واجبة. امّا كل واحد يأتي بأهله وابناء منطقته وقبيلته إلى الجهاز المالي والإداري للدولة، ويعيث الفساد فيه طولا وعرضا، ثم تحدثني عن مكافحة الفساد، ستكون ريبتي فيك وفي نواياك مضاعفة.. بل وسأكون على يقين أن لا مشروع لديك في مكافحة الفساد، بل وتعمد إلى مزيد في الإيغال فيه، وتصر على تطويل عهده مع الإصرار والتمكين، وأن ما تصنعه ليس فقط فسادا مضاعفا مع الحيلة وسبق الإصرار، بل ومضافا إليه عدم الحياء والخجل، ومزيدا من الاستهتار والاستخفاف بعقولنا التي أثقلتها بالمناورة والأكاذيب.. (2) كيف يستقيم الزعم أنك تريد عدالة ونزاهة وقضاء محترم، فيما ترفض صرف مرتبات القضاة الذين تحت ولايتك.. أننا نتجنّى ونحن نعتبرها مرتبات، وهي في حقيقتها قد صارت اليوم لا تزيد عن صدقة من شحيح.. وأكثر من هذا تنتظر أن يصرف المرتزقة مرتبات القضاة الذين تحت ولايتك، بل وأكثر منه.. أنت لا تتخلى فقط عما تفرضه المسؤولية حيال شعبك وحيال من هم تحت ولايتك، بل وتتنصل حتى من الشعور بها.. من يفكر هكذا من المستحيل أن يكون رجل دولة، بل هو في الحقيقة رجل جباية من العصر الوسيط.. (3) مكافحة الفساد لا يكون انتقائيا ولا تجريبيا.. لا يكون باختيار الحلقة الأضعف، وسياسية مثال: "اضرب البردعة يفهمك الحمار" أو سياسة الرسائل المشفرة للفاسدين الكبار الذي كان ينبغي أن تبدأ سياسة المكافحة من روؤسهم.. يجب أن تبدأ مكافحة الفساد بالرؤوس الكبيرة والراعية للفساد أولا.. ألم تسمعوا بالمقولة المشهورة: إن الفساد يجب مكافحته من أعلى إلى أسفل ككنس الدرج بالضبط.. فلماذا تعمل بالمقلوب..؟! أما الزوبعة على علان من الناس وترك فرعون وفساده، فليس من مكافحة الفساد في شيء.. كما أن التعاطي مع الفساد أو تقسيمه بفساد صديق وفساد غير صديق، وبدلا من مكافحته تتجه إلى تمكين فساد على فساد، فليس هذا هو من مكافحة الفساد بحال.. الحقيقة مُرة يا سادة.. (4) هل ما يحدث في صنعاء مكافحة فساد؟!! أم سياسة إحلال وتمكين؟!! وتضييق أكثر لدائرة المشاركة والمواطنة الأضيق؟!! (5) يجري إفشال القطاع العام بتعيينات الأتباع، واقصى من لهم القدرة والخبرة والحنكة الإدارية.. يجرى تغييب العقول واستبعادها لصالح المقربين والاتباع وأصحاب الولاء و"الطيرمانات" الصغيرة.. يجرى تغييب وهدم شروط الوظيفة العامة.. وأثناء التعيين للمناصب العليا في المؤسسات يجري كنس مبدأ المفاضلة بالخبرة والنزاهة، بل واستبدالها بمعايير ما أنزل الله بها من سلطان.. مفاضلة بين الاتباع والأقارب والولاء والصحب.. مفاضلة يتم فيها رعاية الفشل المديد حتى ينتهي الحال إلى قطاع عام فاشل، وما كان ليفشل لولا سلطة فاشلة تعين الفاسدين والفاشلين، وترعى الفشل، وتهون منه، حتى تجعل مؤسسات القطاع العام بخبر كان. جاء في إحدى التقرير الرقابية بصدد إحدى المؤسسات، أنه يجري إدخال المؤسسة بعقود شراكة مع القطاع الخاص بشروط مجحفة، وبدون دراسات جدوى اقتصادية مسبقة العوائد، وبعيدا عن مدى مساهمة تلك الشراكة في تحقيق أهداف المؤسسة، وبدون تحديد واضح ودقيق لمساهمة المؤسسة أسوة بما يتم لشركائها، أو تقييم لمساهمة الشركاء في مقابل نسب تقاسم العوائد، حيث تتولى المؤسسة تمويل كافة النفقات التشغيلية ومعظم النفقات الرأسمالية.. إنها أموال الشعب مهدور ومستباح الحقوق، وسلطة لا تبحث عن العقول، وإنما تبحث عن الولاء والأقارب.. تبحث عن الفاسدين والفاشلين وتقصي بعيدا أصحاب العقول والخبرة والنزاهة بتعمد وسبق أصرار.. (6) فوضى إدارية وفشل ذريع للمؤسسات العامة يشرحها ضعف اهتمام تلك المؤسسات بتحصيل رأس مالها، وتأخر بدء تحصيل ايراداتها، وعدم قدرتها على تأكيد تحصيل كافة مستحقاتها، وقصور في ممارسة أنشطتها الرئيسية، وانعدام معايير وشروط أنشطة التمويل، وعدم ربطها بزيادة الانتاج، وغياب السجلات، وضعف إجراءات الرقابة على منح التمويل وعمليات الاسترداد، وعدم وجود لوائح أو سياسات معتمدة تنظم اجراءات تقديم التمويل، وعدم الاهتمام بإعداد قواعد البيانات والتوثيق، وعدم توفر السجلات التحليلية، أو قواعد البيانات عن المديونيات والقروض، وعدم وجود ضمانات لاستردادها.. كل ذلك يشرح فشل إداري ومالي يستمر عميقا دون حساب أو عقاب أو تصحيح اختلال حتى يتوفى الله تلك المؤسسة أو يتوفى المسؤول عليها.. نحتاج إلى قدر ليغير الحال، لأن الفشل محروس ومدعوم بالفاشلين، الذين باتوا يتكاثرون في هرم المؤسسات العامة والمصالح الحكومية ويتقوون بأعلى مراكز الفشل.. (7) بتم إنشاء مؤسسات بعشرات ومئات الملايين من أموال هذا الشعب المنكوب من الخارج والداخل، ولا يجري تفعيل الرقابة عليها.. المال السائب لا يعلم فقط السرقة، بل ويسهل عملية تجريف رأسمال تلك المؤسسات وما يُعتمد لها، ويجهز على تلك المؤسسات، ويقطع نفسها في أسرع أجل ووقت ممكن، ولا يوجد حساب ولا عقاب، طالما حدث هذا من مال الشعب المباح حقوقه.. نفقات دون وثائق، وعجوزات، واعتماد نفقات تحت مسمّى تسهيلات، وضعف رقابة على العهد المالية وغيرها، بل وفوضى إدارية ومالية يرتُكب تحت مظلتها الفساد والتجريف وإنهاء مؤسسات الشعب، باسم الشعب المغلوب على أمره. (8) بناء الدولة ليست مجرد رغبة بل هي أفعال مستمرة.. هي مواطنة ومساواة ومفاضلة ومعايير صارمة .. هي خبرة وكفاءة ونزاهة وفن إدارة.. وعندما تعمد إلى تسليل الوظيفة العامة من الوزير حتى الموظف الصغير، وتعتبر الوظيفة العامة مكافأة للأقارب والأصحاب.. وتجلب ما في مسب الحطاب للوظيفة العامة، تكون قد ارتكبت بحق الوطن خطايا كبار تتناسل نتائجها لردح طويل من الزمن، ويقول قائل "لا يصلح العطار ما أفسده الدهر".. الأفعال في الواقع هي المقياس الحقيقي لما تريد.. لن تتمكن من بناء دولة مهما أدعيت.. الواقع سيظل يكشف النوايا على محكه كل يوم ويبرهن إلى أين تسير!! ويبني الآخر موقفه منك على ذلك وليس على الكلام الذي لا يجد نفسه حاضرا وملموسا في الواقع.. (9) عندما تستبعد الكفاءات ولا تبحث عن الخبرة والنزاهة، بل وتبحث عن معايير أخرى غير معايير وشروط الوظيفة العامة، يكون الفشل مؤكد وذريع، ويجد الفساد جميع الأبواب مفتوحة ليمارس شهيته وسلطته المستمدة من الأعلى بأي صيغة كانت.. والمثال مؤسسة الحبوب.. ومصدر المعلومة هنا هو "الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة" الذي يرأسه شخصية قيادية منهم، والأهم حتى هذه التقرير في ظل ما نعيشه من فساد واسع لا يؤدي إلى تغيير، بل صار السائد والمعروف أن هذا الوضع يتم تكريسه بإمعان ليس بمؤسسة الحبوب، وإنما بكافة المصالح والمؤسسات الحكومية التي يدعمها لوبي الفساد الذي يجد في المركز من يدعمه.. وصف تقرير الجهاز المركزي فيما يخص مؤسسة الحبوب مستوى كفاءة وخبرة الكادر الوظيفي للمؤسسة ب”الضعيف”، عوضا عن افتقار المؤسسة للكوادر المتخصصة في الأنشطة الرئيسية، ما أثر على نشاطها و تحقيق أهدافها. ويشير التقرير أبضا إلى ضعف منظومة العمل المالي والمحاسبي واقتصار السجلات المحاسبية المستخدمة على سجل اليومية العامة و عدم العمل وفق أبسط قواعد و اجراءات العمل المحاسبي، و عدم القدرة على تقديم أبسط البيانات المالية، وعدم تطابق موازين المراجعة مع سجل اليومية العامة و الحسابات التفصيلية، فضلا عن ضعف أداء ادارة المراجعة الداخلية و قلة كادرها وضعف تأهيله، ما أثر في مستوى الثقة في البيانات المالية للمؤسسة. إنه الفساد يا سادة..