تقرير يتناول انخفاض أسعار العملات الأجنبية وأسباب عدم مواكبة أسعار المواد الأساسية لهذا الانخفاض كيف تسببت الصراعات السياسية في ارتفاع وانخفاض أسعار الصرف دون أي رقابة؟ متى يستشعر المواطن أن انخفاض الدولار سيؤدي إلى تراجع أسعار السلع والمواد الغذائية؟ هل سنرى تفعيل الرقابة مع عودة الحكومة أم أن البلاد أصبحت بيد متنفذين متحكمين بكل شيء؟ من يسرق الرغيف ؟ تقرير / بديع سلطان: مثلما ارتفعت أسعار العملات الأجنبية أمام الريال اليمني بشكل كبير وغير مسبوق قبل أسابيع، وربما شهور، ها هي تنخفض بذات الوتيرة، مثيرةً كثيراً من التساؤلات التي تبقى بلا إجابة. فالمكاسب التي حققها الريال اليمني منذ بدء الانسحابات العسكرية المتبادلة بين قوات الانتقالي وقوات الشرعية من مواقع التماس في أبين، وتضاعفت بعد الإعلان عن الحكومة الجديدة؛ لا يبدو أن هناك مبررا مقنعا لحدوثها، على العكس تماماً من خسائره خلال الشهور الماضية. وبعيداً عن من يقف وراء المكاسب التي حققها الريال اليمني، أو لكونها تسويقاً للحكومة الجديدة وتنفيذ اتفاق الرياض، إلا أن ثمة مفارقة تستوجب الوقوف أمامها ملياً. فاللافت في قضية الصعود والهبوط المفاجئ والسريع للعملات هو أن هذا الانخفاض لم يرافقه تراجع مماثل في أسعار الوقود أو السلع والمواد الغذائية الرئيسية، التي ارتفعت بسرعة البرق بمجرد صعود العملات الأجنبية وهبوط الريال. ويبدو أن الأمر، كما وصفه أحد الكتّاب الساخرين، "أن العملة المحلية بلا وساطة وبلا هيبة؛ تغري المواد الأساسية على الانخفاض"!. تحسن إعلامي.. وواقع ساكن بعد أن وصل الدولار الأمريكي ذروته، وبلغ سعر الصرف قرابة ألف ريال يمني، بينما صعد الريال السعودي إلى حدود 250 ريالاً يمنياً، بلغت السلع الأساسية أوجها، وارتفعت هي الأخرى لتحقق أرقاماً قياسية، لم يكتوِ بنيرانها سوى المواطن البسيط. فهذا الكائن الذي لا يأبه لحاله أحد من المسئولين أو القائمين على شئون البلاد، لا يقوى سوى على السكوت والصمت والصبر، وهو يرى أخبار انخفاض أسعار صرف العملات الأجنبية، مقابل ارتفاع وتحسن العملة الوطنية، فقط عبر وسائل الإعلام، من على شاشات التلفزيون أو صفحات الجرائد. لكن شيئاً على الواقع لم يتغير، ولم تتبدل الأوضاع المعيشية، ولم تتأثر أسعار السلع الغذائية بهذا التحسن الذي حققه الريال اليمني، وبقي الواقع بعيداً عن أخبار الإعلام التي تسوّق وتروّج لتعافٍ لم تنعكس آثاره على الأرض. فبقيت الأسعار المرتبطة بحياة المواطنين اليومية، كالوقود والمشتقات النفطية والمواد الغذائية، ساكنة على أسعارها التي بلغها الدولار الأمريكي والريال السعودي، حين قارب الأول ألف ريال، وشارف الثاني على الوصول إلى 250 ريال يمني، وكأن التعافي الذي حققته العملة المحلية لم يكن. وتعتبر مراقبة انخفاض الأسعار إعلامياً دون أن تُرى على الواقع من أشد أنواع الحرب النفسية التي يتعرض لها اليمنيون البسطاء، وكأن هناك تعمد لإطالة أمد معاناة هذا الشعب، وتأجيل استشعاره لإيجابيات التقدم المحرز على الصعيد السياسي والعسكري. الصراعات وحياة الناس منذ 2015، أثرت الصراعات السياسية والعسكرية على استقرار الأوضاع المعيشية والاقتصادية في اليمن عموماً، بل أن تأثير الصراعات كان قبل هذا التاريخ حتى. غير أن الصراعات السياسية التي انحصرت في جانب حزبي أو ثورات شبابية واحتجاجات هنا وهناك لم تنعكس بشكل عنيف على الأوضاع الإنسانية التي وصلت إلى مستويات كارثية ومأساوية، كما هو حال الصراعات العسكرية، التي انتهجت نهجاً عنيفاً بقوة السلاح. فمنذ ست سنوات أخذت الأوضاع المعيشية منعطفات خطيرة، بدءاً من كوارث إيقاف المليشيات الحوثية رواتب موظفي الدولة، وانقسام البنك المركزي اليمني بين عدن وصنعاء، ومروراً بطباعة الأوراق المالية وما أعقبه من منع الانقلابيين الحوثيين تداول العملات الجديدة من العملة المحلية، وما ترتب عليه من ارتفاع عمولات التحويلات المالية بين مناطق الشرعية والحوثيين. كان لكل ذلك أكبر الأثر على تردي أوضاع الاقتصاد الوطني، الذي شهد خلال ست سنوات ما لم يشهده خلال تاريخ اليمن أجمع. كما لا ننسى أن الصراع الذي نشب في عدن خلال خريف 2019، بين الانتقالي والشرعية؛ كان له انعكاسات معيشية وخدمية كبيرة على المواطنين الذين لم يجدوا الدولة الهشة التي كانت متواجدة في حدودها الدنيا قبيل مواجهات أغسطس من ذاك العام. ولا يستبعد مراقبون متخصصون من تأثير الصراعات العسكرية على تردي سعر الريال اليمني خلال تلك الفترة التي تجاوزت العام، وهو أمر وارد لدى الاقتصاديين والمتخصصين في المعاملات المالية. الاقتصاد والسياسة صنوان لا يفترقان.. هكذا هي علاقة السياسة بالاقتصاد، فكلاهما يؤثر في الآخر، بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة. فحتى على المستوى العالمي، تُشن الحروب وتندلع الصراعات في سبيل البحث عن الثروات الطبيعية والموارد الاقتصادية، تماماً كما هي تأثيرات تلك النزاعات على معيشة المواطنين واستقرارهم. لهذا رأينا مؤخراً في واقعنا القريب، كيف نجح اللاعبون السياسيون بالإيحاء للرأي العام المحلي بجدوى تنفيذ اتفاق الرياض وأهميته لاستقرار البلاد، وتأثيراته على الحياة المعيشية والاقتصادية، وسارعوا بخفض سعر صرف العملات الأجنبية، وتحسين قيمة العملة المحلية لتمرير هذا الإيحاء، بمجرد بدء تنفيذ انسحابات عسكرية، وصفها مختصون بأنها "محدودة" في أبين، وبمجرد الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة. ويعتقد مراقبون أن هذه الممارسات تجلت فيها لعبة الاقتصاد والسياسة بكامل تفاصيلها، خاصةً وأن الانخفاض المزعوم في سعر صرف العملات مقابل الريال أُعلنت فقط في وسائل الإعلام، ولم تنفذ في الأسواق والبقالات وأماكن معيشة المواطن المغلوب على أمره. وما يجعل من مثل هذا الحديث مقنعاً ومقبولاً، هو أن الارتفاعات والانخفاضات التي شهدتها أسواق الصرف وتعاملات شركات العملات والصرافة، كانت تحدث لعفوية وتلقائية، دون أي تدخل من الدولة وأجهزتها الرقابية والمصرفية العليا، كالبنك المركزي اليمنيبعدن مثلاً. ولعل ما يجعل هذه الفرضية صحيحة، هو سلسلة الإضرابات والتعليق عن العمل التي نفذتها شركات ومنشآت الصرافة، مبررةً ما أقدمت عليه بتخلي البنك المركزي عن مسئوليته تجاه إنقاذ العملة الوطنية. رقابة الدولة الغائبة وما يزيد من التأكد على مثل هذا التخلي لمؤسسات الدولة عن دورها الرقابي تجاه الحفاظ على قيمة وسعر العملة الوطنية، هو ما تم مؤخراً من صعود أسعار العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني، ووصول الدولار إلى 940 ريالا، وفجأة، وبلا مقدمات، وفي ليلة وضحاها يتراجع ويسترجع نحو 160 ريالاً من قيمته بمجرد تنفيذ انسحابات عسكرية محدودة. وهو ما يؤكد غياب الإصلاحات المالية، والإجراءات المصرفية الرسمية التي يمكن أن تكون سبباً في تحسن الريال، لكن يبدو أن الأمر مناط بتحركات سياسية أكثر منها اقتصادية أو مالية. وهو ما استشعره المواطن المغلوب، الذي يلمس بكل تأكيد غياب الدور الرقابي للدولة، ليس على مستوى التحكم والسيطرة على ارتفاعات وانخفاضات الريال، ولكن حتى على تراجع أسعار المواد المرتبطة بحياة ومعيشة الناس بشكل مباشر. حيث يشكو نسبة كبيرة من المواطنين عدم تراجع أسعار السلع رغم مرور أكثر من أسبوعين على انخفاض أسعار العملات الأجنبية وتعافي الريال اليمني، فيما الارتفاعات كانت مباشرة وسريعة بمجرد صعود أسعار الصرف!. لكن يبدو أن الأمر بعيد المنال عن أيادي أجهزة الدولة الرقابية، وهو ما قد يُرجعه كثيرون إلى عوامل سياسية وعسكرية، ساهمت في تعزيز هذا الغياب. ولعل أبرز تلك العوامل، عدم تواجد الحكومة ومؤسساتها في عدن والمناطق المحررة منذ أغسطس 2019، وهو ما ضاعف من خسائر العملة المحلية، وتصاعد العملات الأجنبية، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل جنوني. ويرى مراقبون أن الحل قد يكمن في عودة الحكومة اليمنية إلى الداخل، ومزاولة مهامها الاقتصادية والمالية، عقب الإعلان عن تشكيلتها مؤخراً، حتى يستشعر المواطن المغلوب على أمره استقراراً اقتصادياً افتقده منذ زمن. عودة الحكومة.. هل سيكون هو الحل؟ دعوات الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي للحكومة اليمنية للعمل من الداخل اليمني، قد يفضي إلى تعزيز رقابة الدولة على التحكم بأسعار الصرف، ومعالجة أوضاع الاقتصاد الوطني وتحسينه، بما يحقق استقراراً ملحوظاً في الجانب الاقتصادي. ويتوقع محللون ومتخصصون اقتصاديون بأن التفاؤل الدولي والإقليمي الذي رافق الحكومة الجديدة، من شأنه أن يعمل على تلقيها الكثير من الدعم المالي، الذي ستواجه من خلاله تدهور الأوضاع المعيشية المتدهورة، وتعمل على تحسينها، وتكثيف دورها الرقابي إزاء هذا الملف. وهذا ما يرجوه المواطنون، ويتمنونه وينشدوه بفارغ الصبر.