(إذا قابلنا الإساءة بالإساءة ..فمتى تنتهي الإساءة ) غاندي لا يخفى على أحد كم هي عظيمة قيمة التسامح .. تلك القيمة السامية التي تعتبر من أهم وأرقى وأسمى وأعظم وأنبل القيم الانسانية التي تحتاج إليها البشرية اليوم في عالم تعصف به الحروب وتتجاذبه الصراعات ووتقاذفه المشكلات وتموج به الفتن ..وذلك لما لهذا السلوك الراقي من أهمية في رأب الصدع وتضميد الجرحات وإذابة جليد الأحقاد والاسقام وانقشاع سحب التقاطع والتدابر وإزالة غبار التخاصم والتشاحن وإشاعة أجواء السلم والسلام والأمن والأمان والاستقرار في المجتمعات . لهذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم مال لذلك السلوك من أهمية في حياة الامم والشعوب باعتباره صمام أمان لحفظ المجتمع من التمزق والتشتت والضياع واتساع هوة الخلافات المفضية إلى مزيد من الصراعات... فجعله مبدءاً أصيلاً من مبادىء الإسلام وجسده واقعاً في حياته وتعامله مع من حوله منذ أن أمره الله بالدعوة . وقدتجلى ذلك في أنصع صوره وأبهى حلله... يوم أن دخل مكة فاتحاً فطأطأت له رؤوس زعماء قريش وخضعت له رقابهم وذل له كبرياؤهم في ذلك الموقف الرهيب الذي كانوا يظنون أن تتبدى فيه قيم الانتقام والكيد والبطش والتنكيل.. تلك القيم السقيمة التي تشربوها كثقافة غاب في المجتمع الجاهلي. ولكنهم فوجؤوا بأن الفاتح المنتصر يقول لهم: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) لاتثريب عليكم اليوم إنطلقوا في ميادين الحياة فلا انتقام ولابطش ولاتنكيل ولاتقتيل.. وإنما هي الاخوة الصادقة الداعية إلى لملمة الشمل ورأب الصدع وتضميد الجراحات ونسيان الماضي . فأصغى الزمان لسماع تلك العبارة الخالدة التي لم تكن معهودة في ثفافة ذلك المجتمع آنذاك والتي غدت منهجاً من مناهج الدين . هكذا أكمل النبي محمد بنيان ذلك السوك الرائع وهكذا أتم جماله ووطد أركانه لينطلق في بيداء الحياة كمبدأ إنساني سام تتطلع إليه البشرية جمعاء . وفي الحقيقة أن تلك القيمة المجتمعية الرائعة لم تكن بدعة من القول ولا فلة من فلتات الزمان ولكنها منهج إلهي راسخ اتصف بها جميع الأنبياء والرسل , وخلق متجذر في حياة المجتمعات قديماً وحديثاً حيث لم تخل أمة من الأمم ولا مجتمع من المجتمعات إلا ودعا مفكروها وفلاسفتها إلى التحلي بهذا السلوك الراقي العظيم . فها هم أبرز فلاسفة اليونان من أمثال "أرسطو وأفلاطون وكنفوشيوس" اعتبروا هذا السلوك من أنبل الأخلاق التي تحفظ المجتمع من التمزق والشتات وتحافظ على وحدة تماسكه . وعلى نهجهم سار فلاسفة عصر التنوير في أوربا من أمثال ( روسو وديكارت وتوماس هوبز وغيرهم ) حيث أكدوا على أهمية التحلي بهذا السلوك الرائع. وها هي منظمة اليونسكو عام 1995م قد أعلنت مبادىء التسامح وأكدت بأنه قيمة إنسانية عالمية وبأنه لم يعد مجرد التزام أخلاقي وإنما حاجة إنسانية وسياسية ومجتمعية ضرورية لضمان حقوق الناس وحرياتهم . فكم نحن اليوم بحاجة إلى أن نجسد هذا السلوك الرائع الراقي في حياتنا خاصة ونحن على أعتاب مرحلة جديدة تكللت بالاتفاق التاريخي الذي أفضى إلى طي صفحات الماضي وتشكيل حكومة جديدة والشروع في مرحلة البناء والإعمار والتنمية . فكم أتمنى من الجميع استيعاب متطلبات هذه المرحلة وإشاعة مبدأ التسامح والتغافر والعفو لأنه بمثابة المنظف الذي يزيل بقع التشوهات و البلسم الشافي الذي يضمد الجراحات ذلك أن اجترار ثقافة الانتقام ستؤدي وبدون أدنى شك إلى مضاعفة انتقام أعتى منه وأشد.. وهكذا سيستمر مسلل الانتقام والانتقام المضاد إلى مالا نهاية. وكما قال غاندي ... إذا قابلنا الإساءة بالإساءة فمتى ستنتهي الإساءة . كلي أمل ورجا أن يتفهم كل من تحمل مسؤولية _ في ظل هذا الظرف العصيب_ أننا نبحر على متن سفينة واحدة ... تلك السفينة بحاجة إلى جهود الكل حتى تصل إلى بر الأمان . ووالله إنه ليس هناك ما هو أجمل ولاأسمى ولا أروع من أن تسود قيمة التسامح في حياتنا لانها دليل قوة وليست دليل ضعف وخلق الأقوياء وسلوك السادة والقادة العظماء .