أثارت تصريحات رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي القائد عيدروس الزُبيدي لقناة روسيا اليوم الكثير من اللغط في الجنوب لما حملته من إشارات صادمة للكثيرين، خصوصاً في التعاطي الإيجابي مع موجة التطبيع مع العدو الصهيوني، دفعت بعض المحبين للمجلس للمسارعة في التبرير والتأويل، وبعضهم للدفاع عنها، وطالب قليلون أن يتصدر وسائل الإعلام شخص أكثر مكراً في التصدي لمراوغات الإعلاميين ومشاكساتهم، فيما وجد خصوم المجلس ضالتهم وفرصتهم للانقضاض على المجلس. والحقيقة، أن المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يتربص به المتربصون لم يكن بحاجة للمزيد من شق الصف الداخلي بهكذا هفوات تقسم أنصار المجلس من أبناء الجنوب، بل وتتجاوز التفويض الشعبي الممنوح له بقيادة دفة النضال نحو استعادة دولة الجنوب، وليس لإرضاء الخارج على حساب تماسك الداخل والالتفاف الشعبي حول المجلس وصمود القوات الجنوبية في الجبهات القتالية. لا شك أن إدخال المجلس الانتقالي الجنوبي في دوامة التعقيدات السياسية الإقليمية، والدخول في معمعة العلاقات الدولية وتناقضاتها لهو إثقال لكاهل المجلس بكونه فصيل ثائر حمل على عاتقه السير بالقضية الجنوبية حتى استعادة دولة الجنوب التي ستحدد هي توجهاتها وعلاقاتها بالمحيط والإقليم وفق أسس ديمقراطية سليمة، ومؤسسات منتخبة تترجم إرادة شعب الجنوب ومصالحه وهويته ومبادئه، تختلف كثيراً عن مجرد التفويض بالتحشيد الشعبي الذي يمكن القبول به في الظروف الاستثنائية كأدة لقياس الرأي العام وحجم التأييد الشعبي والجماهيري لهذا الخيار أو ذاك دون الدخول في التفاصيل الصغيرة، وكذلك دون الاستعجال بتحديد العلاقات السياسية لدولة لم توجد بعد! حتى الآن، لا يبدو أن قيادة المجلس الانتقالي لديها الرغبة في التراجع عن هذه الهفوة، بل مضى كثير من المحسوبين على المجلس في مباركتها وتأييدها، ولم يصدر المجلس أي توضيح وتعامل مع ردود الأفعال بتجاهل وكأن الأمر خطوة طبيعية من صميم أنشطة المجلس وأدواته النضالية! حتماً، سيواجه المجلس وقيادته في كل المواجهات القادمة نفس السؤال عن التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، إذ كيف لمجلس يناضل من أجل تحرير أرضه من احتلال أن يبتهج بعلاقة مع احتلال آخر في بقعة أخرى عزيزة من أرضنا العربية؟ وبغض النظر عما يردده البعض عن مدى معرفة الشعب الفلسطيني المقهور عن قضيتنا الوطنية الجنوبية أو تأييده لها، فإن موقفنا من القضية الفلسطينية لا تحدده علاقة الفلسطينيين بنا، حاضراً أو ماضياً، بل تمليه علينا قيمنا ومبادئنا وإنسانيتنا، ولقد كان للجنوب دولة ذات موقف عروبي مشرّف، أدّت التزاماتها القومية بكل فخر واعتزاز وجَلَد وصلابة، دون أن تضطر لأن تعترف أو تهادن أو تطبّع أو تتملق للعدو الصهيوني، بغض النظر عما آلت إليه تلك الدولة بسبب أخطائها بحق شعبها. إن الحرص على المجلس الانتقالي يأتي باعتبار أنه مجلس لكل الجنوبيين التواقين للحرية والاستقلال ولا ينبغي أن يكون ريشة تتقاذفها الأهواء الإقليمية، أو شطط التصريحات المتسرعة، خصوصاً أن المجلس الانتقالي الجنوبي جاء ترجمة لدعوات جنوبية متكررة لتوحيد فصائل الحراك الجنوبي السلمي، وتوق الجنوبيين لكيان سياسي موحد، وهو الأمر الذي يجعلنا نتمسك به للمحافظة على المكتسبات الكبيرة التي تحققت، وحتى لا تدفع القضية الوطنية الجنوبية ثمناً باهضاً فيما لو خرج المجلس -أو أُخرج- عن المسار، وهو ما يتمناه أعداء قضية الجنوب والمترصدين لهفوات المجلس، رغم إيماننا الراسخ بأن الحق الجنوبي لن يسقط، وأن القضية الجنوبية لن تتأثر عدالتها وستواصل السير بهذا الحامل أو ذاك، لكن بالمخلصين المؤمنين بحق الشعب في الحرية والاستقلال، وهؤلاء ليس من بينهم الميسري والجبواني وجماعة ائتلاف العيسي الذين ارتهنوا لخيارات أخرى بعيدة عن إرادة الشعب وخياره التحرري، وقد لفظهم الشعب، هذا الشعب الصامد الصابر الذي لايقبل التهاون في قضيته أو الابتعاد عنها أو الانشغال بقضايا هامشية دونها، وقد رأينا كيف حمل شعبنا قادة الحراك الأوائل فوق الأكتاف، كالمناضل باعوم الأب، والنوبة، وغيرهما ورفع صور البيض والعطاس والجفري وغيرهم وكيف أن هذه العلاقة خضعت للتقييم بمرور الوقت، رغم عدم تخلي كثير منهم عن خيار التحرير والاستقلال. إن أمام المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم فرصة للمراجعة ليس فقط فيما يخص هفوة التصريحات الأخيرة، بل مراجعة تفضي إلى تحرير القرار الجنوبي من القيود التي تكبله، وضمان التعبير الأمثل عن إرادة الشعب، مراجعة تضع مصلحة الشعب في الجنوب وخياره في الحرية والاستقلال في المقدمة مع الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع الحلفاء أساسها وضوح وأولوية الحق الجنوبي في التحرير والاستقلال، وليس غيره.