اليوم عيد الأم، عيد أمي وكل الأمهات! هذا العام قررتُ ألّا تكون هديتي ل (ست الحبايب) عادية وتقليدية كما كل عام، فكل هدايا العالم وأغلاها لاتساوي شيئاً أمام هداياها وعطاياها، أمام خيرها وبركتها ووجودها في حياتنا كالتاج على رؤوسنا، لذا، قررت أن تكون الهديّة هذه المرة غير، هدية مُميزة من نوعٍ خاص، صُنعت لأجلها فقط، هدية مكوّناتها مشاعر وذكريات مخزونة ومجمّعة، من هُنا وهُناك، من مشوار حياتها الحافل الطويل، وغلافها حب صادق وعرفان بالجميل. هديتي لها...بضع أسطر وكلمات! ست الحبايب...أمي، إسمها الحقيقي (فِردَوس الأصنج)، موظفة سابقة بوزارة التربية والتعليم، ومتقاعدة حالياً. عملت كمعلمة في مدارس عدن الإعدادية والإبتدائية المختلفة، قبل وبعد الإستقلال. أشتهرت خلال مشوارها المهني وعلى نطاق واسع ب (الست فردوس سلطان ناجي)، أي السيدة ناجي – مسز ناجي MRS NAGI ، وهذه كِنية على الطريقة الغربية، فالسيدة المتزوجة تُنسب لزوجها، وهذا التوصيف كان شائعٌ ومعمولاً به رسمياً في شئون التوظيف والتعيين الحكومي للموظفات المتزوجات في مستعمرة عدن، وأستمر العمل به بعد الإستقلال لفترة طويلة فيما يخص الموظفين القدامي، وقد ظلت أمي تحمل إسم الشهرة هذا إلى أن تقاعدت رسمياً في نهاية التسعينات، لذا، فإن القلّة كانت تعرفها وتناديها بإسمها الحقيقي، والأغلبية من زملاء العمل وتلاميذها ومجتمعها المحلي تعرِفها بإسم الشهرة المذكور! أمي.... الست فردوس، تنقلت خلال عملها التربوي في مدارس عدن المختلفة. البداية كانت في مدرسة بالمعلا، ثم مدرسة الميدان بكريتر، وأخيرا ومنذ بداية السبعينات أنتقلت وأستقرت في مدرسة أبناء الجيش بخورمكسر، المعروفة سابقاً بإسم مدرسة الشهيد بدر وحالياً مدرسة الفقيد عبدالله خليفه الإبتدائية. في مدرسة بدر، عملت كمُعلّمة تاريخ ولغة عربية وخلافه لأكثر من ثلاثة عقود إلى أن تقاعدت في نهاية التسعينات. وقد شكل إستقرارها وعملها في نفس المدرسة لمدة طويلة نسبياً، حوالي ثلاثون عاماً، إلى نشؤ مايمكن تسميته ب (علاقة تاريخية وطيدة) بينها وبين المدرسة ومرتاديها، وطلابها، وطواقم الإدارة والتدريس المتعاقبة، ومجالس الآباء، والمجتمع المحلي المجاور للمدرسة بخورمكسر وخصوصاً أحياء: السفارات، السلام، المرور، بدر، المدينةالبيضاء، السعادة، الرشيد، المطار والعريش! كانت سبب في تمتعها بشهرة وشعبية واسعة، وخصوصاً أنها كانت ( مُعلّمة من حق أول - جيل المستعمرة عدن)، فقد كانت مُعلِّمة ومُربّية وأم للجميع، لاتُفرِّق بين هذا التلميذ، إبن المواطن أو الموظف أو العسكري البسيط، وبين ذاك زميله في الصف إبن المسئول أو القائد الكبير، الكل أبنائها وتلاميذها، بنات وأولاد، ويحظون جميعاً على حدٍ سواء بإهتمامها و حنانها وتعاملها الحَسِن. ولقد كَبُرَ (عيالها وبناتها) التلاميذ و تخصصوا في مختلف المجالات، وتوزعوا في كل الأماكن والمناصب، لذلك دائما ما تجد من يقبل عليها في هذا المرفق أو ذاك، ليؤدي لها التحية ويعرفها بنفسه ويعرض خدماته لها طواعية وبكل حب وفرح. وبالمثل حظينا نحن أبناؤها بهذه الميزة، وكان لنا من بركاتها دائماً نصيب، ولو من باب (علشان خاطر الست فردوس)! وقد لمسنا مدى شعبيتها الطاغية بين أوساط مجتمعنا المحلي بخورمكسر أثناء نزولها للساحة لدعم ومساندة الحملتين الإنتخابيتين لشقيقتي د. أوراس، رحمها الله، في الإنتخابات البرلمانية (1997 و 2004)، والتي فازت فيها على التوالي، فمن كان متردداً في إعطاء صوته لأوراس وللحزب الذي تمثله، أي للمؤتمر الشعبي العام، كان يحسم تردده ويعطي صوته لها (لأنها بنت الست فردوس)! أمي ...الست فردوس و والدي، جمعتهما قصة غرام يطول شرحها. بدأت أحداثها في مدينة الشيخ عثمان، حافة الأصنج، عندما رأها والدي للمرة الأولى في دارها، وأفتتن بها لبقية عمره. هي تلك الجميلة التي أصابت قلب والدي بسهم كيوبيد وتربعت على عرشه، وبسببها أنجز سنين دراسته الأربع في الجامعة الأمريكية ببيروت إلى ثلاث ليعود سريعاً ويحظي بها ويتزوجها. وكم كان يردد مازحاً (أمكم شغلت تفكري، ماخلتنا أصطدي اللبنانيات الحلوات اللي عن يميني وشمالي، وكلفتت السنين علشان ارجع قبل ماتطير عليّا الحمامة)! لقد كانت هي الزوجة والحبيبة والصديقة والأم الصالحة التي وقفت جنباً إلى جنب معه في رحلة العمر والحياة، في السرّاء والضرّاء، وقدّمت له ولنا كل الرعاية والحب والإخلاص والصبر والإيثار، ولولاها لما أستطاع التفرّغ للعلم والعمل والإبداع والنجاح، ولما تمكنا نحن الأبناء، أن نصل إلى ماوصلنا إليه من نجاح وإستقرار في حياتنا وأعمالنا. أمي ....الست فردوس، هي تلك المرأة القوية ذات الصوت المسموع في أسرتنا الصغيرة، وكم كان يحلو لوالدي تبرير ذلك بأننا ( نعيش ديمقراطية حقيقية) ويجب على الجميع الإلتزام بها، فنحن بيت الأغلبيّة فيه للنساء (عددنا أربع) والأقليّة للرجال (عددهم ثلاثة)، لهذا، فالأقلية من الرجال عليها ببساطة أن تنصاع وتُسلِّم أمرها لحكم النساء، وعلى رأسهن طبعاً الست فردوس! وربما كان هذا أول درس تعلمناه وغُرِسَ فينا وطُبِقَ على حياتنا عن الديمقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة! أمي ...الست فردوس، هي تلك المرأة التي كان والدي الراحل، يناديها وينطق بإسمها أمام الملأ بكل فخر وإعتزاز، و دون خجل أو تردد، كما يفعل مُعظم الناس الآن، صغاراً وكباراً، حيث تسود ثقافة إخفاء إسم المرأة وعدم البوح به علناً وكأنه أمر مُخجل أو منافي للتقاليد أو مُعيب أو حرام ! أمي ...الست فردوس، هي المرأة ألتي صمدت إلى جانب زوجها في وجه كل تقلبات الدهر والسياسة بعدن بعد الإستقلال، وواجهت معه تيارات التجهيل وإلإنتقام والفوضى وإقصاء الآخر، حيثُ كانا بشخصيهما دائماً تحت الأهداف المباشرة لتلك التيارات و لجانها التسلُطيّة الرقابية (لجان الأذيّة الشعبية) وتُهمها المعلبة الجاهزة (ثورة مضادة، رجعيين وعملاء الإستعمار، ثقافة أنجلوسكسونية...إلخ). كما أنها جاهدت وكابدت كغيرها من الأمهات، لتوفير متطلبات أُسرتها الضرورية من غذاء وكساء وخلافه على أكمل وجه وقدر المستطاع، في تلك السنين العِجاف التي مرينا بها في عدن والجنوب، سنوات (صناعة القطيع المُستنسَخ، المُكرر، الخالي من التميُّز والإبداع!)، سنوات (القحط والجوع المؤدلج بالشيوعية والإشتراكية العلمية!)، سنوات إنعدام السلع وشحتها ومحدوديتها، سنوات (بطاقة تموين السكر أبو رطلين!)، سنوات طوابير التعاونيات والجمعيات، المعروفة شعبياً حينها ب"الكيلو" ، والتسابق في طوابير الحجز الطويلة من فجر الرحمن ليتمكن سعيد الحظ من أن يكون من العشرة الأوائل الفائزين بدخول التعاونية ليغنم ب (الأفضل قليلاً) عن المتسابق الذي بعده! وكم كان العم جرادة ( الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة)، وهو الصديق الأقرب لوالدي وللأسرة وزائرنا الدائم، يشهد لأمي وتفانيها كربة منزل، حينما يُعلّق ساخراً، وهو يتذوق طبق "اللبنيّة" خاصته: (ياسلطان كم أنت محظوظ ببنت الأصنج، كيف تعمل فردوس ومن فين تجيب حاجات البيت؟ كله معدوم في السوق وثلاجتكم مليانة، و كمان فيها جيلي ولبنيّة!). أمي...الست فردوس، هي تلك الأرملة الشابّة، والأم المُتفانية، القويّة، الواعية، التي أستطاعت أن تُسيّر دَفّة سفينة حياتنا بعد رحيل والدنا المُبكِّر قبل أكثر من ثلاثين عام، مُخلفاً وراءه خمسة أبناء: أوراس، أوسان، معين، يزن وريدان، مابين سن الطفولة والمراهقة والشباب، فصانت عهده، وحفظت بيته وأولاده، وأوصلتنا إلى برّ الأمان. وكم يحلو لنا تذكّر مقولته وممازحته الدائمة لها ولنا: (أنا عارف من ورائي ومُطمئن تماماً أنه معي "لبوة شرسة"، فإن رحلت من هذه الدنيا، ستقوم بالواجب ولن يمُسَكُم سؤ)، وفعلا كان الوصف والعشم في محله، وحافظت اللبوة على أشبالها إلى أن شقوا طريقهم وشبوا عن الطوق وخرجوا من العرين! أمي ... الست فردوس، أعتذر لها اليوم، لأني كنت الأكثر تمرداً من بين أخوتي، وربما الوحيدة! وكانت نقطة الخلاف الأبرز بيننا هوايتي وشغفي لتربية الحيوانات، والكلاب خصوصاً، بينما هي ترفض ذلك وتعارضه بشده. عندما كَبُرت أدركت كم كانت تصرفاتي طفولية ومزعجة، وكيف أنها تحملتني بالرغم من ذلك! لقد كانت كأم محقّة في كل محاولاتها (اليائسة) لنهيي عن هذه الهواية، فبالإضافة ألى ماسببته هوايتي من مشاكل وإزعاج للجيران ولها، فقد كنتُ أُعاني حساسية شديدة منها عرّضتني لمخاطر صحيّة جديّة في طفولتي، وعوضاً عن كسر نفسيتي وقمعي، سمحت لي، ولو على مضض طبعاً، بالإستمرار فيها، وتحملت هي أعباء إضافية لتطبيبي ! أمي ... الست فردوس، أمدّها الله بالعمر والعافية، ربيعُ حياتنا، لاتزالُ تَطِلُّ علينا بمرح، من نافذتها العلوية كل خميس، وأطلق عليها من باب الدعابة (إطلالة ماري إنطوانيت)، حيث تطل لإلقاء التحية والترحيب بصويحباتي وضيفات مجلسي الأسبوعي، واللواتي بدورهن يصررن على نزولها لتشاركنا جمعتنا في الحديقة في الهواء الطلق، وحينها قد تقرر النزول والمشاركة إستجابة لطلب (الجماهير)! ست الحبايب ..أمي ... الست فردوس، الحديثُ عنها يطول، ولن أتمكن من إيفائها حقها، وماهذا إلاّ قيض من فيض، وأكتفي بذلك! فإليها، وإلى كل الأمهات اللواتي وقفن مع و بجانب أسرهن، وكن بحق أمهات عظيمات، أبعث التهنئة وأرفع أسمى معاني الحب والتقدير والإحترام. المحامية أوسان سلطان ناجي، 21 مارس 2021