المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية كتب / رنا ابو عمرة بعد أن اتسم الوضع في سوريا على مدار الأشهر الماضية بالتعقيد الشديد إلى درجة جمدت أي محاولة للخروج من دائرة العنف المستمر، وعززت من حالة التوازن السلبي بين النظام السوري وقوى المعارضة في ظل تساوي موازين القوى قبل معركة القصير وفقًا للمؤشرات الميدانية، إلا أن الوضع في سوريا قد اتخذ منحى جديدًا بعد معركة القصير التي استعاد فيها نظام بشار الأسد سيطرته على قرية البويضة ليستعيد بذلك آخر معاقل المعارضة المسلحة حول بلدة القصير.ويرجع المكسب الاستراتيجي في هذه المعركة لكون القصير ممر مدد رئيسي للجيش السوري الحر، وكذلك لجيش الأسد، من وإلى الأراضي اللبنانية. ميزان القوة عسكريًّا وسياسيًّا انتصر نظام الأسد في معركة القصير بمدد عسكري معلن من إيران والعراق، وبمساندة مقاتلين من حزب الله في لبنان، فضلا عن دعم روسي، في خطوة عسكرية تكتيكية لها انعكاسات سياسية ودبلوماسية بعيدة المدى وعميقة التأثير على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية. وقد أرسلت هذه المعركة عدة رسائل سياسية للمجتمع الدولي بقدر ما وجهت رسالة مباشرة لقوى المعارضة على أرض الواقع متمثلة في استعادة الثقة في تحركات نظام الأسد، وقدرته على تقويض سيطرة المعارضة على مدن ومناطق في سوريا، وكذلك فقد حملت هذه المعركة بُعدًا معنويًّا كبيرًا يستثمره النظام في الحشد لمعركة حلب القادمة، في حين أرسل نظام الأسد رسالة واضحة لقوى المجتمع الدولي المعارض فحواها أنه ما زال قادرًا على التحرك، وأنه ليس بمفرده، بل إن مؤيديه الاستراتيجيين في المنطقة قادرون على الفعل، وعدم الاكتفاء بخطابات الدفاع الدبلوماسي فحسب. وفي إطار نتائج معركة القصير لا يمكن لنا الجزم بتقدم نظام الأسد على أرض الواقع، حيث إن المعارك الحاسمة لم تبدأ بعد، إلا أنها استطاعت أن ترمي بحجر في مياه الأزمة الراكدة، وأن هناك تغيرًا في ميزان القوة على الأرض ولو بشكل بسيط، بما سينعكس حتمًا على أكثر من مساحة، ويطرح أكثر من احتمال.فقد أظهرت هذه المعركة أن ثمة حجمًا حقيقيًّا للأطراف المباشرة في الصراع معتمدًا على قدرة الحلفاء والداعمين الخارجيين على تقديم دعم مباشر عسكري ومالي وسياسي يساهم في تعزيز موقفها التفاوضي. تحولات ما بعد القصير لا شك أن الصراع العسكري سيظل دائرًا على أرض الواقع، وستزداد كثافته وتتعدد أطرافه وتتسع دائرته في المرحلة المقبلة، فضلا عن أنه لا شك في أن الحديث عن جلوس المعارضة والنظام على طاولة واحدة للمفاوضات بحثًا عن مخرج سياسي أصبح أمرًا غير منطقي في المدى المنظور، فهذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها مرحلة "إعادة ترتيب أوراق التفاوض" من خلال حسم الوضع الميداني لصالح أحد الطرفين تمهيدًا لفرض قوته على التفاوض، بما يضمن تصدره للمشهد وإملاء شروطه. وعليه فإن إمكانية عقد مؤتمر جنيف 2 في موعده أمر غير واقعي، فمن ناحية ترفض المعارضة الحديث عن أي مبادرات سياسية للخروج من الأزمة، وضعًا في الاعتبار أن المعارضة في وقت سابق كانت قد اشترطت للمشاركة في المؤتمر تنحي بشار الأسد عن الحكم، في حين يعمل الأسد وحلفاؤه على فرض وجوده في المعادلة السياسية كأمر واقع من خلال المكاسب الميدانية. وفيما يخص المكتسبات السياسية فقد فرضت معركة القصير تجاوز أحد عوائق عقد مؤتمر جنيف 2 وهو الاتفاق حول المشاركين، فقد استطاعت فرض مشاركة نظام الأسد والقضاء على أي شروط مطالبة بتنحي الأسد قبل المؤتمر، أو إيران التي كانت الولاياتالمتحدة تعارض مشاركتها في مؤتمر جنيف، أو في أي مبادرة سياسية للتعامل مع الأزمة السورية. إن استمرار الحديث الروسي الأمريكي عن عقد مؤتمر جنيف 2 في حال استطاع النظام إحراز مكاسب جديدة، أو في حال عدم قدرة المعارضة على صد الهجوم عليها لن يعني سوى محاولة دولية جديدة لكسب الوقت، وإضعافًا للطرف الأضعف، وهو المعارضة، الأمر الذي يخدم بالأساس أمن إسرائيل ومصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة، ولا يخدم أي محاولات جادة لوضع حد للأزمة. وقد اتخذ تدخل حزب الله الطابع المذهبي من البداية حين أعلن عن أن مبرر تدخله هو تحرير القرى الشيعية في القصير والتي كانت تحت سيطرة الجيش الحر، وبالتالي فإن أي مواجهة مستقبلية ستطبع بنفس الطابع المذهبي بحيث سيخرج الصراع من كونه نظامًا يقمع معارضين إلى حرب بين شيعة وطائفة العلويين من جانب وبين سنة. ولعل أخطر ما أنتجته معركة القصير هذا البعد الطائفي الذي سيلقي بظلاله على كل المراحل القادمة من التعامل مع الأزمة، بما سيزيدها تعقيدًا، بل قد يثير احتمالات انتقال الصراع عبر الحدود إلى دول تعاني من حالة ديموغرافية فسيفسائية عبر فتح جبهات للمواجهة في القرى اللبنانية الشيعية من ناحية أو انتقال مقاتلين سنة وشيعة من العراق للمواجهة على الأرض السورية. فقد أصبحت جبهة النصرة صورة القاعدة العراقية في سوريا، كما أصبحت الحرب لنصرة نظام الأسد هو نصرة للتيار الشيعي الذي أصبح جزءًا معلنًا عنه في المعادلة الميدانية. التداعيات المحتملة من المتوقع أن تتصدر النغمة الإغاثية خطاب المنظمات الدولية والإقليمية تجاه الأزمة السورية بعد أن ركز قرار مجلس جامعة الدول العربية في دورته غير العادية على البعد الإنساني الإغاثي للقضية في أغلب بنوده، وبعد أن أطلقت الأممالمتحدة أكبر نداء إغاثة أممية لمساعدة اللاجئين والنازحين السوريين، وبعد أن أصدر مجلس الأمن بيانًا يدعو الحكومة السورية إلى الوصول الفوري والآمن ومن دون عراقيل للعاملين في المجال الإنساني، ومنهم الأممالمتحدة، وقد جاء هذا البيان دون عرقلة روسية، الأمر الذي يشير إلى تصدر المشهد الإنساني أولويات المجتمع الدولي في التعامل مع الأزمة في الوقت الحالي. وقد أصبح من المستحيل الحديث عن أي شكل من أشكال التراجع لدى أطراف المواجهة، فقد نقلت معركة القصير الصراع إلى درجة أعلى يصعب معها التنازل، فلم يعد هناك خيار في الأيام المقبلة سوى محاولات المناورة العسكرية لكسب أراضٍ جديدة تنعكس على قوة المركز التفاوضي فيما بعد، فلم يعد بمقدور حزب الله التراجع عن التعبئة الإعلامية والحشد الشعبي لتحركاته في سوريا، فضلا عن تعويض التكلفة البشرية والمادية التي تحملها على الأرض السورية. كما أنه من غير الوارد الحديث عن تراجع المعارضة بأي شكل من الأشكال، الأمر الذي يعني حتمية المواجهة، واتساع دائرة العنف في المدى المنظور، فضلا عن أن تدخل إيران المعلن في هذا الصراع هو في الأساس خطوة دفاعية عن طهران ضد معارضيها في الغرب، وفي محيطها الإقليمي. فسقوط دمشق، آخر معاقل التأييد لإيران في المنطقة العربية وجبهة مواجهتها المباشرة مع إسرائيل؛ لن يعني إلا مواجهة مباشرة بين الغرب وحلف "طهران-حزب الله" الأمر الذي يشير إلى أنه من غير المتوقع أن تتخلى إيران عن دعم الأسد دعمًا مطلقًا برغم ما تتكلفه ماديًّا لضمان هذا الدعم، الأمر الذي قد يثير بعض المعارضين في الداخل الإيراني قبيل الانتخابات التي ستشهدها إيران في 14 يونيو الجاري على عكس الموقف التركي المؤيد للمعارضة، والذي ينأى بنفسه مؤخرًا عن الدخول في حلبة الصراع السوري في ظل الاضطرابات الداخلية التي تشهدها إسطنبول. وبرغم حجم الانتصار الكبير الذي حققه النظام البعثي في إسقاط القصير في قبضته، إلا أنه لا ينبغي إغفال التكلفة الكبيرة التي تحملها النظام لتحقيق هذا الانتصار من خسائر بشرية ومادية، كما أنه استعان بمساعدة خارجية كبيرة حتى يستطيع اقتناص المدينة من أيدي المعارضة، كما أن إسقاط المدينة قد استغرق 3 أسابيع، وهي مدة ليست قصيرة، فضلا عن استعداء محيطه الإقليمي والغرب ضده وضد حليفته إيران بما يشكله هذا التحرك من تدخل خارجي وإثارة لشبح المذهبية مرة أخرى في المنطقة بشكل يحاكي الوضع في الحرب اللبنانية والوضع العراقي ما بعد سقوط صدام حسين. كل هذه مؤشرات تشير إلى أن معركة النظام مع المعارضة ليست معركة بسيطة، وأنه ما زال أمام النظام تحديات لا بد من اجتيازها حتى يمكننا الاعتراف بانقلاب موازين القوى لصالحه. وعليه فإنه لم يعد أمام الأطراف الداخلية سوى المواجهة الميدانية في الأمد المنظور، كما أصبح المجتمع الدولي والإقليمي في مواجهة مباشرة وحاسمة مع مسئولياته في حفظ السلام والأمن الدوليين، فالأزمة السورية لم تعد أزمة دولة، بل خرجت كذلك عن نطاقها الإقليمي بحيث أصبحت تمس مصالح مباشرة للقوى الكبرى وتتقاطع مع قضاياه العالقة وتتشابك مع أطرافها، الأمر الذي سيعقد من احتمالات مواجهتها. مأزق تسليح المعارضة لقد أشار المقاتلون في صفوف الجيش الحر إلى أن أكبر التحديات التي واجهوها في معركة القصير هي نقص الأسلحة، وضعف التنسيق، ولعل التعويل الأكبر الآن على القوى الكبرى في تقديم دعم وتسليح للمعارضة، أو التدخل العسكري المباشر على غرار ما حدث في ليبيا، في ظل عرقلة روسيا لأي مشروع قرار في مجلس الأمن يدين نظام الأسد، وشلل المنظمة الدولية في التعامل مع الوضع السوري تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة، إلا أن هذا الاحتمال يضعف في ظل إعلان القائد الأعلى لقوات حلف الأطلسي مؤخرًا عدم تخطيط الناتو للقيام بعمليات في سوريا. وثمة عدة عوامل تعيق اللجوء لهذا الحل، وهي، أولا: مخاوف القوى الغربية من سيطرة التيار الإسلامي المتشدد على مقاليد الحكم ما بعد نظام الأسد، الأمر الذي ستكون له تداعياته على أمن إسرائيل بالتأكيد، فقد أعلنت القاعدة بعد معركة القصير ضرورة مواجهة حزب الله في سوريا، فضلا عما تركه الربيع العربي من صور سلبية عن قدرة الإسلاميين غير المتشددين على الحكم، بما أفقد هذا الخيار تعاطف قطاع كبير من الشارع العربي. وثانيًا: شبح التشرذم والتناحر على السلطة، والرغبة في الاستئثار بها، بما يعني المزيد من الصراع في المنطقة بأكملها في حالة السقوط المفاجئ لنظام الأسد.فإذا ما استطاعت الولاياتالمتحدة وبريطانيا فرض حل عسكري فإنه سيجذب القوى العربية وتركيا والقوى المناوئة لنظام الأسد على الوقوف وراء هذا التحرك، غير أن مبادرته لن تأتي إلا من القوى الكبرى. إن المعارضة السورية لا تتلقى دعمًا من حلفائها بقدر ما يستقبل النظام البعثي من دعم مطلق وعلى جميع المستويات من مؤيديه، فضلا عن إشكالية عدم التوحد التي تعاني منها المعارضة في سوريا، الأمر الذي سيؤدي في حال عدم انتصار طرف على آخر إلى أن تتحول الساحة السورية إلى حرب أهلية مذهبية طائفية لا بد من تفاديها. في معركة القصير لم تسقط القصير، وإنما سقطت الأقنعة، وأعلن النظام البعثي رسميًّا عن بدء "سياسة الأرض المحروقة" التي قد تمتد عبر الحدود، فقد اتضحت معالم معركة البقاء التي يخوضها النظام وحلفاؤه ضد المعارضة، ولم يعد هناك ما يخفيه. (*)باحثة دكتوراه في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة