بعد أن وقف العالم مشدوهاً أمام ثورات الربيع العربي، التي قادها شباب متحرر من التصنيفات والولاءات الحزبية التقليدية، التي تلاشت وتبخرت تماماً أمام ذلك المشهد الشبابي، الذي طغى على ميادين التحرير، جاءت نتائج الانتخابات في تلك البلدان مفاجئة، مخيبة تماماً لطموحات الشباب الذين وجدوا أنفسهم غرباء عن المشهد، ودخلاء على الصورة التي رسموها بأنفسهم، وبدؤوا يتساءلون بحسرة: ما الذي حدث؟ لماذا فشلنا؟ هل ذهبنا ضحية لصراعات الكبار الذين اختطفوا الكعكة وتقاسموها فيما بينهم؟ لماذا خرجنا من المولد بلا حمص، ومن ميدان التحرير بلا مقعد أو منصب؟ ليس ببعيد حتى ننسى ما كانت توصف به هذه الثورات بأنها ثورة شباب ال”فيسبوك وتويتر” نظراً للدور الفاعل الذي قامت به مواقع التواصل الاجتماعي في تحريك وتأجيج جموع الشباب الثائر المتطور، الذي يجيد التعامل مع التقنية، وكأنه يرسل رسالة قاسية لل”عواجيز” الذين فشلوا بطرقهم التقليدية المتهالكة في محاولة التغيير أو النهوض بالواقع العربي المتخلف، فما كانوا يحاولون القيام به في عشرات السنين، قام به شباب تويتر والفيسبوك في أيام معدودة! إلى درجة دفعت بعض المحللين والباحثين السياسيين إلى “الكفر” بالأحزاب السياسية التقليدية التي أثبتت فشلها الذريع أمام تحركات الشباب التقني، ف(لقد فشل المتأدلجون عبر كل وسائلهم وخطبهم وكتبهم ونقاشاتهم في استنهاض وعي الأمة بذاتها ونجح تويتر وفيسبوك)، هكذا يقول المحلل السياسي الدكتور دهام العزاوي الذي دافع بكل ضراوة عن ثورة الشباب، مؤكداً أنه ليس (لأحد الحق من أصحاب الشعارات الفارغة والمملة من الإسلاميين والاشتراكيين والعلمانيين أن يدعي لنفسه الحق في استنهاض يقظة الأمة، بعد أن أتخمونا بشعاراتهم التي لا تغني ولا تسمن من جوع).
وفعلاً.. كان حينها انتصاراً مذهلاً، الشباب أنفسهم لم يتوقعوه، لقد انتصر العالم الافتراضي.. انتصر الخيال على الواقع وطارده في الشوارع حتى أسقطه، كما يقول عمرو عزت الناشط والمدون المصري : (منذ أن تفرق اعتصام التحرير مساء 25 يناير، كان الخيال يجمع المجموعات الصغيرة التي تناثرت في وسط القاهرة لتتجمع ثانية وتستمر في التظاهر حتى فجر اليوم التالي، وعندما تعبت الجموع كان هناك إصرار على المعاودة في اليوم التالي.. في شوارع مصر وفضاءاتها الافتراضية كانت جماعة تتشكل، جماعة أكبر من كل المجموعات الناشطة، جماعة كان يجمعها خيال عنيد.. هي بلا مركز ولا رأس، هي أيضا مجرد خيال يجمع أفرادا ومجموعات متناثرة تحاول هنا وهناك في أمل وإصرار.. ثم ذهب الخيال إلى مداه، طارد الواقع وأمسكه من خناقه ثم سحله خلفه في شوارع مصر.. وسقط النظام!) ويختم عمرو عزت كلامه قائلاً: (ثقوا في خيالكم، تقبلوا المغامرة والمخاطرة، أمامكم حياة لتخترعوها!).
لقد قبل الشباب المغامرة، ودخلوا المخاطرة، وسالت دماؤهم في ميادين التحرير، لكن من الذي يخترع الحياة الآن!؟، لقد عاد من كنتم تصفونهم ب”الكهول العواجيز” إلى الواجهة ليخترعوا لكم حياتكم من جديد، وكأن دماء الشباب وأرواحهم قد ذهبت سدى، وخيالهم قد انقشع فجأة بدون أن يظهر ضوء الشمس! ما الذي حدث؟ هل تعطلت قوى الخيال الخارقة، وتوقفت عجلاتها؟ هل انتهى دورها بمجرد أن أسقطت الواقع لتجد نفسها حائرة أمام الواقع الجديد؟ لماذا الخوف من تويتر؟ لقد استيقظت الحقيقة وعادت، لتؤكد بأنها هي الأصل، فجاءت نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع: (الإخوان أولاً، السلفيون ثانياً، الوفد ثالثاً).. وأين شباب الثورة؟ نبحث عنهم في.. رابعاً وخامساً وسادساً وعاشراً فلا نجدهم! لقد ظُلم شباب الثورة، وشباب ال(تويتر/فيسبوك).. هكذا صرح عمرو غنيم الناشط الحقوقي المصري، عضو شباب 25 يناير ، وهو يتحدث لإحدى القنوات التلفزيونية من ميدان التحرير قائلاً بكل مرارة: (لقد سرقت الأحزاب السياسية ثورة الشباب، وتركتهم وحدهم في ميدان التحرير، والسبب أنهم لاينتمون إليها.. لقد ظُلمنا.. ظُلمنا).
الحقيقة المفاجئة في ثورات تويتر أن الذين فازوا في انتخابات الربيع العربي ليسوا فقط لا يملكون حساباً في الفيسبوك أو تويتر، بل إنهم ينتمون إلى كتب التاريخ أكثر من انتمائهم إلى الواقع! فهل سنشهد قريباً معركة مابين الخيال والتاريخ على أرض الواقع.. ثم نستيقظ من الحلم مرعوبين!؟ هل كنا نعيش في وهم، وخيال حين كنا نبالغ إلى حد التقديس في دور “الخيال” (فيسبوك/تويتر) في إسقاط الحكومات الديكتاتورية، ومواجهة جيوشها القمعية التي ضاقت ذرعاً بالاتصالات وفصلت الانترنت عن الشعب؟ الآن لم تعد تلك الحكومات التي تفصل الانترنت عن الناس موجودة، لكن سحر مواقع التواصل الاجتماعي قد انفصل، وعجز عن مواصلة المسيرة، فواصلها شباب الزهور في مجلس الإرشاد الإخواني، ورموز الدعوة السلفية الذين تتراوح أعمارهم بين الستين والسبعين! الثورات.. بدأها جيل تويتر واختطفها من يحرم الفيس بوك في الأخير هذا هو اختيار الشعب، وهذه هي الديمقراطية، وهذه نتيجة صناديق الاقتراع التي تؤكد أن العملية السياسية لها قواعدها الثابتة التي يصعب أن تتغير، فتحقيق النفوذ، وإدارة أوراق الضغط، والمفاوضات مع القوى العالمية والدول المجاورة، وإدارة التحالفات مع العشائر ورجال المال، وكسب الرأي العام، أمور تعتمد بشكل كبير على رصيد التجربة السياسية، والعلاقات الدبلوماسية، والانتشار التنظيمي المتماسك على أرض الواقع، هي قضايا أعقد من أن يتم تجاوزها بمجرد أنك أصبحت رمزاً شهيراً في “تويتر”. يمكننا القول إن ما يحسب لتويتر والفيسبوك أنهما أداتان جيدتان، سهلتا التواصل والتحرك بين جموع الثائرين والغاضبين، ونقلتا أصواتهم مثل ماينقلها الجوال، ومكبر الصوت والراديو والبالتوك، الفرق هذه المرة أن أصوات الشباب توحدت وانتظمت في مسار واحد راغب في التحرر والتغيير. الواقع الحالي يؤكد أن الارتهان إلى مواقع التواصل الاجتماعي كأداة لمرحلة البناء وإدارة السلطة، هو “خيار عاجز”، كما يقول ذلك الباحث السعودي طارق المبارك: (لم يفز كل الشباب الثوري المتمحور حول علاقات عبر الفيسبوك وتويتر الا بمقاعد قليلة جداً في انتخابات مصر، بينما فازت أحزاب تقليدية بأغلبية واضحة، وهذا يوضح حدود الشبكات الاجتماعية حالياً، وأنه لا غنى حتى الآن عن التواصل المباشر مع الناس في أي معركة، لكسب الرأي العام)، خصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك ضعف الخبرة السياسية لدى الشباب، وعدم جهوزيتهم الميدانية التنظيمية والفكرية لكسب الأصوات، وعجزهم أمام التكاليف المالية للحملات الانتخابية التي تتطلب علاقات قوية مع الداعمين ورجال الأعمال. ومن يدري ربما في المرة القادمة ينجح التحديثيون من شباب تويتر والفيسبوك.. وربما لا ينجحون أيضاً.. لأنه في البلد الذي اخترع الانترنت، واخترع مواقع التواصل الاجتماعي.. لا يفوز بالرئاسة إلا واحد من اثنين: إما جمهوري أو ديمقراطي. وفي بلد الإسلام السياسي أيضاً.. لا يفوز “الآن” إلا واحد من اثنين: إما إخواني أو سلفي! من عبدالله الرشيد