على ناصية ركن مدرسة ابتدائية بعدن يقبع محمد السيد حيدرة وهو رجل في العقد السادس من عمره ويطيل النظر عصرا إلى مجموعة من الفتية وهم يتقاذفون كرة قدم وسط فناء مدرسة متهالكة بعدن وقد امسك بطرف يده سيجار ابيض تتعالى منه الأدخنة . بين كل فينة وأخرى يرفع يده ويمتص نفس ليزفر زفرة عميقة تتعالى بعدها خيوط دخان واهية . منذ 7 أشهر يعيش الرجل في احد فصول هذه المدرسة بعدن برفقة أفراد أسرته بعد ان نزحوا جراء الحرب الدائرة في مدينة زنجبار بين جماعات مسلحة ووحدات من الجيش اليمني .
يتحدث "محمد السيد " احد نازحي زنجبار إلى "عدن الغد" بحرقة عما إليه وضعهم اليوم ، عشرات الآلاف من الأشخاص غادروا المدينة خلال يومي 27 مايو و28 من هذا العام في اكبر واقعة نزوح تشهدها اليمن في تاريخها الحديث .
ببطئ يتحدث "السيد " ويقول :" لم أتخيل قط في حياتي ان أغادر زنجبار التي ولدت فيها ولم أتخيل قط ان ينتهي بي مطاف ما إلى ان أكون نازحا بإحدى المدارس ذات يوم انتظر العطف والرحمة من الآخرين .
في ضواحي زنجبار الشرقية يملك ناصر مزرعة صغيرة قضى أيام حياته السابقة بين جناباتها لكنه غادرها خلال الأشهر الماضية ولايعلم عن حالها اليوم شيء ..
كيف يتذكر "السيد " أيامه في زنجبار :" وعيت في حياتي وانا أعيش وسط جنبات زنجبار والدي كان يملك مزرعة موز عشت حياتي كلها فيها ازرعها وأرعاها .. أحب زنجبار كثيراً ولا أتخيل ان أعيش أكثر مما عشته من الشهور السابقة بعيداً عنها .. اريد ان اعود يقولها بأسى ، يصمت برهة ويضيف :" نعم نريد ان نعود لقد تعبنا .
ويضيف بالقول :" في زنجبار كنا نعيش حياة هانئة هادئة كنا مجموعة من الأسر نعيش في ضواحي المدينة نزرع ونجني ونغني ليلا ونمارس الصيد في مياه بحر العرب رغم كل الأحداث التي شهدها الجنوب سابقا الا ان أي أيا من هذه الأحداث واليوم نجد أنفسنا هنا بباحة مدرسة منذ 7 أشهر لم أمارس شيء غير التأمل وتذكر أيامي القديمة في زنجبار ..
يصمت الحاج "السيد" لدقائق وكأنه يقلب بين ثنايا ذاكرته عن أشياء قديمة ثم يرفع رأسه ويتحدث مرة أخرى :" لن يطول الحال بنا هنا ابداً سنعود غداً إلى زنجبار بعد ان يرحل عنها لصوص الحكومة ولصوص الجماعات المسلحة كلاهما إخوة وأصدقاء ونحن الضحية .
مرضى وأضواء وأشياء أخرى تتلاطم أمواج البحر أمامها عصرا على ضفاف ساحل أبين بخور مكسر وهناك تقف كل ليلة بعد ان تغادر مدرسة السعادة التي تأويها منذ أشهر طويلة بعد ان رحلت عن زنجبار مكرهة .. تقول :" شيء ما لن أنساه ماحييت وهو الطريق الواصلة بين زنجبار وجعار طوال 15 عاما مضت ارتحلتها واصلة كل صباح لمقر عملي بمستشفى الرازي الحكومي بجعار ، هناك حيث لازال القلب والعقل يحتفظ بأجمل ذكريات العمر التي لانزال نحلم بأنها ستعود يوما .. تتحدث :" زهور ناصر " وهي طبيبة بمستشفى الرازي الحكومي بجعار عن رحلتها اليومية إلى جعار منذ 15 عام بين جعار ثاني اكبر مدن أبين وبين العاصمة زنجبار .. بحزن شديد تقول :" لازال الصوت يرن في أذني وسيارات الأجرة تمضي بهدوء وسط السوق العام بزنجبار وسائقيها ينادون "جعار جعار " وفي الطريق تمضي بك سيارة الأجرة وتقابل أناس أبين بتعدد عرقياتهم وتسامحهم وتنوعهم والكل يتحدث عن هموم يومية صغيرة..
أزهار تعمل طبيبة منذ 15 سنة مضت في مستشفى الرازي الحكومية ببلدة جعار الواقعة إلى الشمال الشرقي من زنجبار . مثلها مثل غيرها من مدن أبين كانت جعار مدينة مدنية ونالت المرأة الكثير من حقوقها وتمتعت بحرية واسعة النطاق في المدينة .. كل شيء لايزال منطبع في ذاكرتي عن جعار وزنجبار .. هكذا تقول أزهار وتضيف. حولت الحرب الدائرة في أبين مستشفى حكومي كانت تعمل فيه وهو اكبر المستشفيات الحكومية في المحافظة إلى بقايا ركام بعد ان تعرض للقصف من قبل طائرات حربية يمنية خلال معارك سابقة . في جعار حيث تعمل أزهار صباحا وتعود ليلا كل شيء كان في قمة الازدهار واليوم لم يعد هنالك الا بقايا الأشياء .
لم أتخيل قط ان يأتي يوما وأغادر منزلنا الصغير وسط زنجبار اعترف لكم إنني اشتقت لكل شيء في مدينتي اشتقت لمزارع زنجبار وبحرها وأناسها ومآذنها وكل شيء فيها.. ترنو ببصرها نحو زنجبار التي تبعد مايقارب 45 كم عن عدن وتقول بلغة باكية :" أريد ان أعود إلى مدينتي أريد ان أشارك مرة أخرى في بنائها وعلاج أبنائها لا سامح الله من هجرنا من أرضنا لاسامح الله كل من تاجر بألمنا وعذابنا ..
الحنين إلى شواطئ زنجبار وسط ساحة الهاشمي منذ خمسة أشهر دأب محمد العبد سالم على قضاء فترة المساء كل ليلة هنا فقط ومنذ أشهر مضت يتمكن سالم من اللقاء بأصدقائه الفارين مثله من الحرب في زنجبار. يعمل سالم صيادا وكان يملك قارب صغير للاصطياد البحري ألا انه ومنذ أشهر مضت لم تطئ أقدامه بحر ما . على متن حافلة صغيرة وجد سالم نفسه برفقة أسرته وهي تسوقهم بشدة نحو مدينة عدن . أشياء كثيرة تزاحمت في مخيلتي يومها لم افهم لماذا اهرب من المدينة التي عشت فيها كل حياتي السابقة ؟ دونما إنذار وجدنا أنفسنا نغادر المدينة دون ان يكون لنا سبب فيما يحدث .. كل شيء حدث دونما سابق إنذار .
على ناصية شارع بساحة الهاشمي بالشيخ عثمان يلتقي "سالم " بعدد من أصدقائه الصيادين وبحزن شديد يتذكرون أيام مضت لهم في المدينة ورحلات اصطياد متعددة وعودة جميلة عند حلول الفجر إلى زنجبار .. بلهجة زنجبارية واضحة يقول سالم لأصدقائه :" بنرجع ياعويله بنرجع إلى زنجبار وبانهب البحر ماشي انتهت الحياة .. في ساعة متأخرة من كل مساء يغادر سالم مكانه صوب احدى المدارس التي يقطنها منذ أشهر ليعود يوم غد إلى نفس المكان لكي يحي ذات القصة القديمة .. كان لنا بحر ومدينة .
يحدو سالم وأصدقائه أمل كبير بالعودة إلى ديارهم التي تركوها في زنجبار عرضة للدمار والقتل .. يقول سالم ل "عدن الغد" :" تركنا كل شيء خلفنا حياتنا وأشغالنا وكل شيء وتحولنا إلى نازحين .. اشتقت بشدة إلى رمال شواطئ زنجبار اشتقت يا إخوان لكل شيء نحن نموت في اليوم الواحد عدة مرات ..