لا تزال معرفتنا بالفن الياباني محدودة نظرا للتقاليد الخاصة المتبعة عادة من قبل اليابانيين في عرض فنونهم، ولذلك فإن كتاب "الفنون اليابانية" للباحث البريطاني "جون ريف" رئيس القسم الثقافي في المتحف البريطاني سابقا والذي قامت بترجمته مؤخرا ميسون جحا لمشروع "كلمة" للترجمة في أبوظبي يعد مساهمة مهمة للتعريف بأصالة هذه الفنون وتاريخها وموضوعاتها والتقنيات التي استخدمها اليابانيون في صنع وتشكيل ورسم أعملهم الفنية. للفن الياباني حكاية أخرى، يرويها هذا الكتاب من خلال الشروحات التي يقدمها مصدر استثنائي هو المتحف البريطاني الذي يضم أكبر المجموعات الفنية في العالم بما فيها اللوحات والصور الزيتية اليابانية.
خصوصية الحكاية تنبع من خصوصية هذا الفن والفنانين اليابانيين القدماء والجدد في التأكيد على التقاليد القديمة والمواضيع المألوفة في هذا الفن الذي يحاول فيه الفنانون الجدد الاستفادة من التقنيات والأساليب الحديثة، لكن الجدل المحتدم بين أجيال هذا الفن ظل مرتبطا بالموقف من استخدام هذه التقنيات والوسائل الحديثة من قبل الفنانين المعاصرين، إذ رأى فيه الفنانون التقليديون تسوية ثقافية معاصرة مخيبة للآمال.
• الاضطراب والسكينة
منذ البداية يحاول "جون ريف" الإجابة عن هذا السؤال المفتاح للدخول إلى عالم هذه الفنون والتعرف إلى هويتها الخاصة التي تتمثل في موضوعاتها بدءا من المشاهد الشهيرة لجبل فوجي وحسناوات إيدو "الاسم القديم لطوكيو" وصور الطبيعة الغنية بالتفاصيل والخطوط المنسرحة والألوان البهيجة سواء منها المرسومة على القطع الخشبية أو المنسوجات أو القطع الخزفية، حيث تعكس هذه الفنون في محتواها العام بوصفها جزءا من الثقافية اليابانية ثنائية الاضطراب والصفاء والسكينة.
يعرض الكتاب لأعمال فنية متنوعة تمثل جميع الفنانين منهم من عاش في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين إلى جانب فناني القرن الثامن عشر الذين عرفوا بفناني المتعة بصورة خاصة.
شكلت هذه الفنون من حيث طرائق رسمها وتصميماتها ورشاقة خطوطها ومنظورها وبنيتها الفنية نفحة هواء عليل هبت على الأوربيين والأميركيين عند التعرف إليها في أواخر القرن التاسع عشر إذ وجد فيها العديد من فناني أوروبا أمثال مانيه وتولوز وبرنارد خروجا على السائد والمألوف في الغرب.
احتوت تلك الأعمال على موضوعات مستمدة من العالم المعاصر تتوزع على حياة النوادي الليلية والحانات والسباقات ورقص الباليه. المميز في التراث الفني الياباني يتمثل في قابلية اليابانيين لدمج القديم بالجديد والفطري بالدخيل.
اللوحات التي يثبتها المؤلف في هذا الكتاب هي عبارة عن لوحات رسمت فوق كليشيهات خشبية، وهذه اللوحات كانت نتيجة لتضافر جهود أشخاص عدة بدأها الفنان برسم تصميماتها على الورق، ثم ألصق خلفية التصميم النهائي على سطح لوح خشبي مأخوذ من شجر الكرز، بينما تولى الحرفيون المهرة مهمة النقش على اللوح لجأوا بعدها إلى تلوين الرسوم على ورق أرجواني اللون.
في قراءته للعديد من الأعمال الفنية يوضح ريف كيف أن الفنان الياباني لا يلجأ إلى مزج الأوان لتشكيل الظلال في اللوحة كما هي الحال في الفن الأوربي، بل استخدم الألوان ككتل متسقة قام بتقويتها أو منحها اللون القاتم من خلال إضافة المزيد من الماء أو اللون الأبيض. لكن الجانب الخاص في هذا الفن هو غزارة الإنتاج عند بعض الفنانين أمثال كونيسادا الذي قدم أكثر من 50 ألف تصميم.
تدور موضوعات تلك الكليشيهات الخشبية حول المتع وحب الاستهلاك والنساء الأنيقات التي استخدم فيها الألوان المشرقة، لاسيما اللون الأحمر والأرجواني والأزرق والأصفر البراق. أهمية تلك اللوحات تكمن في رسم جميع عناصر اللوحة بأسلوب غير مألوف بدت فيه تلك الأشياء وكأنها رسمت من مكان آخر، إضافة إلى أنها صممت وفقا لخطوط قطرية قوية ما منح المكان حيوية فائقة.
• تقديس الطبيعة
أقدم صناعة خزف نشأت في اليابان منذ ما لا يقل عن عشرة آلاف عام وهي ما تزال قائمة ومتطورة، حيث أظهر الفنانون اليابانيون براعة كبيرة في زخرفة وتشكيل تحفهم الخزفية. من تلك الأعمال تماثيل هانيوا وهي عبارة عن قدور أسطوانية صممت على شكل أشخاص وطيور وأبقار وخيول وبيوت.
اليابانيون دأبوا على صناعة أعداد هائلة وبسرعة من تلك التماثيل وبعد أن توفر لهم الوقت قاموا بطلاء التماثيل بشريط أحمر. لعب الفن الياباني دورا مهما في توفير الشعور بالهدوء، في الوقت الذي يعكس فيه بصدق اضطراب الحياة من الجانبين الخارجي والداخلي. وإلى جانب تماثيل بوذا بأشكالها المختلفة هناك اللوحات الفنية واللفائف التي تصور الاحتفال بذكرى وفاة بوذا أو صعوده إلى النيرفانا.
وقد اتبع أسلوب الأيقونة في رسم صورة بوذا فوق منصة وسط اشجار محاطة بأتباع حزنى وطيور وحيوانات. تقديس الشينتو الديانة الأصلية في اليابان تقدس أشياء كثيرة في الطبيعة، وتعتبر جبل فوجي مسكونا بالأرواح المقدسة فكان لها أثر خارجي على الفن الياباني القديم.
يشير الباحث إلى اللوحات التي تعلق عادة فوق أبواب منزلقة داخل البيت أو المعبد، وهي تنتمي إلى مدرسة كانو التي تضم مجموعة من الرسامين الذين عملوا في البداية داخل المعابد وقصور كيوتو ونالت إعجاب الساموراي، وفيها يرتبط الربيع والصيف بالأنثى والقمر ما يجعل اللوحة ذات محتوى غنائي وأشبه بالأحلام ويكون خطها الرئيس مائلا ومكونا من طيور محلقة أو مجموعة من الناس، في حين تزين أوراق الخريف أثواب الكيمونو والصناديق المصنوعة من اللك والخزف.
• خيول وقرود
يؤكد ريف أن رسم الحيوانات وتصوير حركاتها قد وفر فرصة كبيرة لإبراز مهارة الفنانين من خلال ملء مساحة اللوحة بأكملها بحركة الخيول دون أن يكون هناك أرضية أو سماء، وقد نفذ بعض هذه اللوحات بالحبر الصيني.
كما برزت براعة رسم القرود التي كان ينظر إليها باعتبارها رسلا للآلهة. الفنانون اليابانيون رسموا أحياء المتعة بإيحاء من التجار الذين كانوا يرتادون تلك الأماكن بهدف تخليد عالمهم من خلال تلك اللوحات التي نجد فيها استعراض العام الجديد لأثواب الكيمونو الفاخرة المقدمة من الأثرياء وحضورا كبيرا للمحظيات وفتيات الجيشا.
ومن الموضوعات التي ركز عليها الفنانون رياضة السومو بوصفها جزءا من العروض الرياضية، لكن الموضوع الأهم الذي يحاول مقاربته وشرح خصائصه هو موضوع البحر والجبال التي تتكون منها معظم أراضي اليابان، حيث يظهر في تلك الأعمال الأثر الكبير للتقاليد الصينية من حيث الأجواء الضبابية الساحرة والخيالية، بينما تظهر رسوم جبل فوجي على المراوح وقطع الخزف وخشب اللك والأقمشة.
الموضوع الأثير في هذه الفنون كان هو الجمال كما يراه ريف ماثلا في صور الممثلين والنساء الحسناوات فيما ندرت مشاهد العُري إلا في المرحلة التي تم فيها التواصل مع الفن الغربي أواخر القرن التاسع عشر. إثارة الحواس في تلك الأعمال كانت تتم عبر كشف جزء صغير من جسد الأنثى كالعنق أو جزء من الظهر لكنه في كل الأحوال رسم النساء بوضعيات وأشكال مختلفة تشي بالحركة، وتحيط بها الأشياء التي تتموضع حول الشخصيات بينما تم في تلك الأعمال استخدام المبالغة والألوان القوية.