عامٌ بتمامه يَمر على 25 يناير (كانون الثاني) المصريّة وحراك تغيير تونس وليبيا و حراك سوريا واليمن، ترنّح بين أفراح البعض بإنجاز الهدم وأحزان الكبار لعجز الفكر عن البناء، انبرت الأقلام في الثناء ثم تكسرت لتمسح وتشطب التفاؤل، وعادت لتحاول التفكير والتحبير مُسوّدة الصفحات جيئة وذهابًا في محاولة لإزالة الضبابية والغموض، ولم يُعصم من هذه الرّعشات إلا أصحاب البصيرة والمَواقف الجامدة، الذين إمّا تَخلّوا عن دَورِهم ورضوا بالصمت، أو نطقوا وقبِلوا لَعنة الجماهير، وبين هذا وذاك – وربما معهم- وقفت الحقيقة تكوي العارفين، وتدفئ المندفعين. لحظات التحوّل تلقي بكاهلها على روح الفنانين والكُتّاب، وتخص بثقلها الموجوع – منهم- بضريبة الكلام، والمحروم من متعة الصمت. يقال أنّ حَكِيم صينيًا قديمًا، كان يَلْتَمِس دائمًا في أدعيته أن تُجَنَّبَه القُدرة الإلهية العيش في حقبةٍ مهمة. ويبدو أننا لسنا حُكماء لأنّ القدر لم يجنبنا العيش في هذه الحقبة المُهمَة، فأيًّا يكن المستفيد –الظاهري-، فإنه من الضَّرورِي الحديث لأجل الإنسان الذي أشعَل النِّيران، ليَبنِي شيئًا ما، ولا يزال طريقه طويلا و أمامه نسج العقد الاجتماعي، والاتِّفاق على دستور، وإدماج عقود المواطنة واختبار “أفكار” المساواة، وتأمين كفالة الحريات، وتغيير الثقافة كشرط للديمقراطية المُستدامة. هو بحاجة إذًا لمفاهيم لم يألفها، ولكن حان أوانها.
إنّ الحاجة هي التي تدفع الشعوب إلى تبنِّي المَفاهِيم الكُبرى، والمبادئ لا تهطل مع المطر، ففكر السلام لم يأتِ نَتيجة التأمّل والخلوات المتواصلة والعالم الآمن، بل نتج عن الحروب التي طحنت العالم. كما أنّ مفاهيم التسامح لم تخرج إلا بعد أن حصدت حروب الإقصاء الديني والتطهير إنسان أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وأذاقته الويلات، فاضطرته إلى أن يسمح للآخر بالاختلاف.
خرجت المفاهيم بقناعة تلطخت بدماء الحاجة وترسخت بضرورات ساوتها بالقيم. لذلك فإن حالة الفوضى الحاليّة تُسَجّل الحاجَة لبروز مفاهيم كبرى، تستوعب طموحات الحريّة، فالحريُ بأحداث ماسبيرو أن تلد التسامح، وبالحروب الأهلية في ليبيا أن تؤسس لتجريم السلاح والقتل باسم المقدس، وبالاضطرابات في اليمن أن تُلزم الناس بالديمقراطية كخيار راجح يحقن الدماء، وبالاضطراب في سوريا أن يدل الناس على معنى الدَّوْلة وضرورة نبذ العنف، في حال فُهمت أسبابها الثقافيّة العميقة، وحُصّنت من شعارات الإيديولوجيا، وشراك الأحلام الوهميّة، ولم يستمر الناس في إسناد الحريّة لمن يسلبها غدًا باسم الدين والعدالة لمن يقصرها على فئة دون أخرى.
التحدِّيات كبيرة، منها ما يتعلق بشكل الدَّوْلة في البلاد التي “أُسقِط فيها النظام”، فهي تشهد الآن فكرة “نظامٍ ما” في طور “التولّد”، يصح أن تلهمها أفكار عصر “ما قبل الدَّوْلة”، الذي يتناوله مؤرخو العقد الاجتماعي وتأريخ الدستور في القارة الأوروبية، ضرورة حتميّة للوصول إلى مفهوم الدَّوْلة وفكرتها، وهو تحد قديم جديد، وتدفع حملته اليوم أن يتأنوا ويبتعدوا عن المغامرة الإيديولوجيّة. فرحى التجارب، انتهت إلى سؤال مفاده أيهما نريد: دولة المجتمع أم مجتمع الدَّوْلة؟
قد تستفيد الدَّوْلة القادمة “إن قامت” من التجربة السابقة -وقد لا تفعل-، فحينما قرر محمد علي باشا(ت:1849) نقل التجربة الأوروبية للدولة المصرية الحديثة قبل قرنين، حقق نجاحات “فوقية عظيمة”، لكنّ ذلك كان على حساب المجتمع، ففقد المجتمع كل قوته لمصلحة الدَّوْلة، وشُل وتحوّل إلى عالة على الدَّوْلة. ولا زالت هذه العلاقة الواهية موجودة، وتُضَخم بلا وعي، لأن مشروع “محمد علي” لم يَجِد من يُكمله، ولأنّ من حاول إكماله انشغل بصراعات الواقع. والآن بعد انهيار الدول يحتاج المجتمع من يدله على حاجته للدولة أيضًا، حتى لا يطول المكث بميدان التحرير، ويمكنه مراجعة العقد الاجتماعي والدستور، وما ينظم مواطنته.
مالم تضمن “الدَّوْلة” القادمة للمجتمع قوته، فإنها ستضعه في مواجهتها، وستفقد مرحلة بناء الدَّوْلة الكثير من المعاول المهمة. ويبدو ذلك أقرب للالتزام خاصة وقد أعادت الإيمان الذي اهترأ بأن مصدر الشرعيّة ينبع من داخل الدَّوْلة ومكوناتها الشعبيّة قبل أن يكون خارجيًا مهما كانت الظروف والحسابات.
ومالم يتم تقويّة المجتمع بثقافة تمهّد للحريات وتحارب الإقصاء ومنابع الاستبداد والإرهاب، وتؤسس لحضارة إنسانيّة بعيدة عن هوس الإيديولوجيات وامتطاء المعتقد والفضيلة، فستبقى خُلاصة العام الماضي هي خلاصة العام التالي بخسائر أكبر: “لم يَقْو المجتمع.. فقط انهار النظام”.