تكمن مشكلة الإنسان العربي المعاصر في أنه لا يستطيع أن يستورد (كعادته في كلّ شيء) حلولاً للتغلب على هذه التحديات: لن يُترجِم له العالم الخارجي المعارفَ إلى العربية، ولن يقترح له برامجَ إصلاح لُغتِه، أو وسائلَ صنع المعارف بها!... فالعالم المتطوِّر قد يتمنى بإخلاصٍ فعلاً كلّ الخير للعرب لكنه لا يشعر بالأسى لِهشاشة تعليمهم وعجزه عن صنع المعارف! يعي جيّداً (لا يوجد من يعي ذلك أفضل منه!) أن في ذلك نهضتهم السريعة، وفقدان بعض مصالحه الحيوية التي لا يميل كثيراً للتفريط بها!... ما يزيد الطينَ بلّةً والألمَ استفحالاً هو عدم وجود مشروعٍ عربيٍّ فاعل يعتبر هذه التحديات أولويةً قومية تُعدّ لها الخطط وتُكرّس لها الجهود الخلّاقة!...
التحدي الأول: لغةٌ بلا ذخيرة معرفيّة!
يعيش العالم العربي في كوكبٍ آخر بعيدٍ كليّةً عن منملة مشاريع بناء الذخائر الرقمية المعرفية التي أضحت مركز العلم والمعرفة في عالم اليوم!... في كل المجالات العلمية والتقنية، وفي معظمِ الحقول الثقافية والعمليّة، تمتلك اللغات (عدا العربية) اليوم قاعدةً تحتيةً معرفيّةً رقميةً متعدّدةَ الوسائط. دخلت صناعة المعارف فيها سباقاً يوميّاً! أما القاعدة التحتية المعرفية الرقميّة بالعربية فهي غائبةٌ بشكلٍ كليّ: لا توجد أيّة مشاريع عربية تستحق حتى الذكر، في هذا الجانب!...يصعب هنا عدم التنويه إلى أن معظم طوبات موسوعة ويكيبيديا على سبيل المثال، لاسيما في أغلب المجالات العلمية والثقافية، تخلو من الترجمة إلى العربية، في حين تُترجم غالباً إلى لغاتٍ أقل تداولاً من العربية بكثير!... عدد المواضيع المكتوبة في ويكيبيديا باللغة البولندية، على سبيل المثال، يساوي عشرة أضعاف ما هو مكتوبٌ بالعربية تقريباً!..
التحدي الثاني: لغةٌ تعاني من أنيميا الترجمة!
أنيميا الترجمة إلى العربية صارخةٌ اليوم: كثير من أعين الكتب العالمية لم تر النور بعد بالعربية! معظم أمهات الكتب الحديثة التي تشكّل نبراس الحضارة المعاصرة غير معروفة بالعربية التي كانت، في العصر العباسي، لغة الحضارة الكونية بفضل حملة الترجمة الواسعة إليها للكتب الأجنبية في شتى المجالات من فلسفة ومنطق وطب وفلك ورياضيات وأدب، من مختلف اللغات الإغريقية والسريانية والفارسية والسنسكريتية والحبشية... التي أغنتها بروافد فكرية وكلمات ومصطلحات كثيرة. ومازال استخدام تقنية الترجمة الآلية عربياً ضعيفاً جدّاً رغم إمكانية استثمارها بقوّة، لاسيما لِردمِ هوّة الترجمة العلمية والتقنيّة والثقافية!..
التحدي الثالث: لغةٌ لم تكمل بعد بناءها التحتي الرقمي!
لا يوجد حتّى اليوم قارئٌ ضوئيٌّ آليٌّ لأحرف اللغة العربية يستحق أن يحمل هذا الاسم، رغم امتلاك اللغة الفارسية ذات الأحرف الشبيهة ذلك! يُشكِّلُ عدم تصميم برمجيةِ قارئٍ ضوئيٍّ عربيٍّ حتى الآن عائقاً كبيراً يمنع دخولها عصر الرقمنة، لأنه وحده ما يسمح بتحويل صور صفحات الكتاب إلى نصوصٍ رقميّة! دونه يلزم من جديد إعادة طباعة كل ما كُتِب بالعربية على الكمبيوتر!... يمثّل هذا الغياب معضلةً قوميّة يصعب تصوّر إمكانية وجودها اليوم، في أي بلد، ناهيك عن عالمٍ تمتلك بعض دولهِ ثروات وإمكانيات ماديّة هائلة، كالعالم العربي!...
كذلك وضع المدوّنة: لا تمتلك العربية حتى الآن مدوّنتها اللغوية، أو أي معجم إيثيمولوجي!... المفارقة المثيرة والمؤلمة أن اللغة العربية كانت أول من أسس القواميس والمعاجم ونواة المدوّنات اللغوية!...وتفتقر العربية أيضاً إلى برمجيات كمبيوترية مناسبة لتصحيح نصوصها قبل وضعها على الإنترنت وللبحث عنها فيه. الموضوع خطيرٌ في الحقيقة لأن صفحات الإنترنت بالعربية (لاسيما منتديات الدردشة والحوارات، وصفحات الأخبار والتعليقات العامة على الأحداث اليومية والكتابات...) ملطّخةٌ بأدغال وأعداد فلكية من الأخطاء اللغوية والإملائية التي لا تخطر ببال، هي اليوم جزءٌ هامٌ فعّالٌ مؤثر من ترسانة العربية على إنترنت وأدوات تكوينها الآلي!...
بديهي أن اللغة العربية لم تبدأ بعد نظائر مشاريع الرقمنة الكبرى، لأنها لم تستكمل بعد بناء قاعدتها التحتية!... يكفي معرفة أن عدد الكتب التي رقمنها مشروع جوجول، في عام 2007 فقط، مليون كتاباً، في حين أن «مشروع الذخيرة العربية»، التي تدعمه الجامعة العربية بميزانية خاصة منذ 1975، لم يُرقمن حتى الآن إلا 230 كتاباً!...
وسائل إنهاض اللغة العربية في الزمن الرقمي:
أودُّ أن أضع هنا مقترحات مترابطة للمؤسسات الثقافية والتعليمية العربية، وللحكومات العربية ولِجامعة الدول العربية تشكل مشروعاً لإنهاض اللغة العربية في العالم الرقمي. الهدف الاستراتيجي للمشروع تأسيسُ قاعدة تحتية رقميّة ثلاثية الأبعاد للثقافة والتعليم العربي، بطرائق حديثة فعّالة مُلهِمة، تضعُ في مركزها الطالبَ والأستاذَ والمثقفَ مُنتِجاً ومُستخدِماً للمعارف في نفس الآن، تردمُ الهوّة التي فصلت العالم العربي عن العالم المتطوّر، وتسمحُ له بمجاراته ومنافسته لاحقاً!... تتشكّل هذه القاعدة من ثلاث بوابات على إنترنت، متكاملةٍ ومتفاعلةٍ مع بعضها البعض، تمثِّلُ الدعائم الأساسية الثلاث للمعرفة والتعليم العربي، وقاعدة نهضته المتينة:
أ) بوابة التعليم الرقمي العربي:
بناء بوابة إنترنت تحوي موارد تربوية تعليمية عربية متنوعة (دروس، تجارب وتمثّلات مختبرية حيّة متعدّدة الوسائط، تمارين محلولة، أمثلة...) في كل المجالات (علوم وتكنولوجيا، هندسة، اقتصاد وإدارة، صحة وطب، بيئة وموارد طبيعية...) بأنواع تربوية شتى (دروس مباشرة، دروس عن بُعد... موجّهة للطلاب أو للمدرسين أنفسهم بالعربية) معدّة بأرقى الوسائل التقنيّة الحديثة. يلزم التأكيد أن هذه البوابة لن تصمّم لتكون بديلاً للمدرسين والجامعات، لكنها تسعى لأن تصبح مرجع الطالب والمدرس الأول، كتابهما الدائم، ووسيلتهما اليومية الجديدة للتطور السريع في عالم يتقدم بسرعةِ البرق!...
يلزم لإنشائها فتح باب مسابقات للمدرّسين الجامعيين داخل العالم العربي أو خارجه، تضع مقاييسها وتختار عروضها الناجحة لجان تحكيمٍ متخصّصة، هدفُها بناء بوّابات دروسٍ رقمية عربية نموذجية على الإنترنت للطلاب العرب في مختلف المواد العلمية والتقنية، تستخدم تقنيات متعددة الوسائط حديثة!...
ب) بوابة حملة الترجمة العربية الحديثة:
بناء بوابة غنيّة ومتطوّرة لكتب ودراسات ومعارف شتى (نصوص مجانية، معارف آتية من موسوعات مجانية مثل ويكيبيديا، كتبٌ فَقَدت حقوق النشر، كتب ذات حقوق نشر...) مترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، تستخدمُ التكنولوجيا الحديثة وتفجِّرُ طاقات المختصين والطلاب لردم الهوّة الهائلة في هذا المضمار.
لتحقيق هذا الهدف يلزم الاستفادة من التجربةِ الصينية في الترجمة، المستندةِ على تقنيات العصر الرقمي: فتحُ مسابقات ترجمة للجميع (مترجمين تقليديين، طلاب ومتخصصين، كتّاب، معاهد وأقسام ترجمة)، وتقديمُ مكافآت تُعطَى حسب مقاييس تختارها لجانُ تحكيمٍ خبيرة، في ضوء خطّة ترجمة عربية لترجمة ما يعادل العشرة آلاف كتاباً سنويّاً!... يمكن وضع هذه الكتب المترجمة في بوّابات إنترنت لتصل للجميع، دون الحاجة إلى طباعة معظمها بالضرورة!...
ج) بوابة البنية التحتية الرقمية للعربية ومكتبتها الرقمية الكبرى:
استكمال بناء قاعدة تحتية رقمية متينة وكاملة للغة العربية، وبناء مكتبتها الرقمية الكبرى عبر مشاريع ترقيم مجموعةٍ هائلةٍ (تعدُّ بالملايين) من كتبها ومطبوعاتها الأساسية يتمّ وضعها في البوابة على إنترنت لكل قراء العربية في جميع أنحاء العالم. لتحقيق هذا الهدف يلزم أوّلاً الدراسة الدقيقة لوضع أدوات البناء التحتي الرقمي المتوفرة، وإكمال بنائها سريعاً، قبل البدء بوضع خطة عربية لمشاريع الرقمنة العملاقة.