- آه.. أكاد أختنق.. ألا يكفي الوقت الذي لاكني فيه ذلك الصغير بين أسنانه، وعندما استنفد كل قدراته في تفتيتي وعجز عن بلعي - ربما انتهى بي المطاف في ظلمة جوفه الدافيء - انتهز فرصة ذهبية لاستدارة وجه أمه نحو شقيقته ورمى بي تحت قدميه ليستقر بي الحال في هذا المكان المظلم المخيف.. آه أتمنى لو أتمكن من معرفة من كان سبباً في قلبنا رأساً على عقب هكذا.(قطعة لحم). - وأنا أيضاً لا أستطيع التنفس فهذه الفتحة المتناهية الصغر تتراءى لي كسراب كلما حاولت الاقتراب منها. فرت مني فبعد أن تمتعت باحتضاني بين أنامل رشيقة لم أفرق بين حمرة أظافرها وحمرة لوني، أصارع الموت خنقاً داخل جدران هذا المكان البغيض.(تفاحة إلاّ قضمة).
- أما أنا فمصيبتي مصيبتان فبعد أن نجوت من الانصهار بين كف تلك الصغيرة التي أصرت على عدم فتحي وعجني بين لآلئ فمها المتناهي الصغر وحرمتني من رفقة شقيقاتي في تلك العلبة المذهبة التي ما أن يفرغ محتواها حتى ينضب مخزونها من جديد وبتدفق أكثر من سابقه.. ها أنا الآن بادئة في الانصهار في هذا الجو الخانق الكئيب الذي سيخفي ملامحي بعد قليل.(قطعة شيكولاتة)وأخيراً جاء المنقذ ممتطياً صهوة حذائه الذي نخلت الإبرة ظهره قبل بطنه وطرفه قبل وسطه وبكامل مابداخله من غليان وتذمر من سوء حاله - ركل ذلك البرميل القذر ونالت محتوياته التي تناثرت يميناً ويساراً غاية أمانيها واستنشقت الهواء، وبهرها ضوء الشمس الساطع مرة أخرى من جديد وبدت علامات الدهشة والفرحة ممتزجتين على وجهه الذي اكل الدهر عليه وشرب، وكأنما وجد كنزاً أفقدت بريق لآلئه بصره وجعلت صوابه يحلق مع الغربان التي اجتمعت محلقة حول ذلك البرميل القذر بنعيقها المشئوم.
وبحركة لا إرادية مد يده فاستقرت قليلاً في دفء ذلك الجيب المرقع الذي لم يحوي لصاحبه خلال خمسة عقود منها ثلاثة خدمة متواصلة في وظيفته دون تغيب مهما كان عذره أكثر من سبعة آلاف ريال هي راتبه مع الحوافز التي وصل إليها بعد هذه الفترة الطويلة.أخرج كيساً أسود بلون عينيه اللتين لم تخفيا شيئاً مما داخله، وفضحتا بؤسه وشقاه، منذ أن تحمل مسئولية بيت وزوجة وأربعة ابناء.راح يقنع نفسه بتبريرات كثيرة وهو يجمع الأشياء داخل كيسه رافعاً صوته حيناً وخافضاً إياه أحياناً أخرى مردداً:
- لابأس قليل مما هو صالح للطعام في هذا الكيس كفيل بأن يمدنا بالعون خاصة في هذه الظروف بالغة الصعوبة.. ومردداً بصوت اليأس من كل ماحوله.. لابأس ياصغاري.. لابأس.. أحكم رباط كيسه الجديد بعد أن أزال كل الشوائب العالقة بأشيائه وتوجه إلى منزله أثقلته همومه وجعلت خطواته بطيئة تتصارع فيما بينها للوصول إلى عتبة المنزل الصغيرة. راح يقرع الباب بأنامله الأنيمية منذ زمن تجاهل حسابه ليقي أطفاله شر ذلك الداء وقبل أن يفتح له الباب.. بدأ يردد.. لا.. لايمكن أن يصل بنا الحال إلى هذا الوضع المهين.. بدأ يصرخ وبصوت هستيري.. لا.. لايمكن مستحيل.. مستحيل.. استيقظ من نومه مذعوراً.. ليرى زوجته أمامه وفي يدها كوب ماء أسرعت بإحضاره عندما وجدته يعاني من ذلك الكابوس المرعب الذي حرمها منامها وهي تردد خيراً اللهم اجعله خير.. عاد له صدى صوت قادم من أعماق الكون -الساكن- داخله - لاليس خيراً.. ليس خيراً.. خيراً.. خيراً.. يراً.. راً.