لعلك - عزيزي القارئ - لم تسمع ولم تقرأ فيما سمعته أو قرأت عنه في كتب التاريخ السياسي للحكام والمسؤلين من غير القومية العربية ما سمعناه وقرأنا عنه في كل وسائط الفك ر والمعرفة ومنابر الثقافة والاعلام والسياسة عما لم يمل ولم يتوقف حكامنا ومسؤلينا العرب بالذات من بين جميع الامم والقوميات الاخرى على سطح المعمورة قديماً وحديثاً من الحديث الذي طالما أصموا أذاننا ومسامعنا بترديده وتكراره في المحافل السياسية والفكرية والثقافية والعلمية وفي كافة الفعاليات والادبيات والمؤتمرات والمحاضرات والندوات والدراسات ومراكز البحث الاستراتيجي المتخصصة وغير المتخصصة التي أقاموها على مر العقود عن "الوحدة الوطنية" لبلدانهم العربية الممزقة وتمسكهم القوي بثوابتها الراسخة رسوخ الجبال فيها وإيمانهم العميق بمبادئها وقيمها السياسية والجماهيرية والجغرافية والاقتصادية العظيمة وروابطها الاجتماعية والاخلاقية والدينية السائدة المقدسة وحرصهم الشديد في الحفاظ عليها وحمايتها وصيانة وشائجها بمناسبة او دون مناسبة حتى فقد هذا التعبير رونقه ومعناه لدى السامع والقارئ والمتلقي منا فغدى اثره باعثا على التذمر واليأس وإفشاء مشاعر الرتابة والاحباط فينا من كثر ترديده..في حين ان ما شهدناه ومازلنا نشهده على ارض الواقع من التشظي والتفكك يوماً بعد أخرى يحرك في صدورنا نوازع الغيرة والحسد تجاه الواقع الذي تعيشه تلك الشعوب والانظمة التي لا تتحدث إلا قليلاً أو نادراً عن وحدتها الوطنية ..إن كان لها ان تتحدث عنها في مناسبة من المناسبات . ذلك لان العرب يقولون ما لا يفعلون ويفعلون نقيض ما يقولون هذا ما كان منهم في ازمنة ماقبل ثورات الربيع العربي أما بعد ذلك فقد ظهرت فيه الحقائق ناصعة ، وما عادت الأقنعة تنفع أو ما عاد للاقنعة حاجة في زمن صارت الخيانة فيه مطلبا والذل هدفا وأضحت الوحدة عبئا والنضال ارهابا .
سوى إن الدجل يبلغ ذروته الفائضة عن الحاجة عندما تشهد ان التمزق الوطني والاجتماعي للشعوب هو النتيجة الحتمية الدائمة التي تقود اليها سياسات هذه السلطات التي تعمل جاهدة على طعن كرامتها وتغييب وعيها وإجبارها على التسليم والايمان بالرويات الرسمية التي تجيد فبركتها وتفصيلها على نحو مدروس وممنهج يستهدف تتويه العقل عن الحقيقة خلف الاوهام التي تبثها الالة الاعلامية عبر كثير من الوسائل التي سخرت لهذا الغرض ,
اولئك الذين يتبوأون مواقع السلطة في البلدان العربية يكاد التشابه في خطابهم الجماهيري يجمعهم بمفرداته حول مرجعية واحدة من المرجعيات المستفيدة منهم ومن هذه السياسات العقيمة التي تستنزف ثروات وامكانيات الشعوب مثلما أنه يخلّف وقعا مشابها لدى المستمع الذي يعي ان الوطن ومثله الشعب ايضا لم يعد لدى هولاء الساسة اكثر من مجرد شعار خاوي ,,من جهة أخرى حين يكون مطلوبا من ضحايا القمع أن يسقطوا حقوقهم وان يعترفوا (بعدالة) كل انتهاك صدر بحقهم وان يكفوا عن الشكوى والاعتراض والغضب وأن يُفسّر نضالهم لأجل حقوقهم أو غضبهم من انتهاكها بأنه خيانة للوطن واعتداء سافر على سيادته ووحدة اراضيه ..!
على ان المصيبة الادهى ان كثيرون وفي مقدمتهم الأكاديميون والكتاب وإلاعلاميون والمثقفين ممن يفترض أن يكون التزامهم بدورهم التنويري داعيا الى التمرد ورفض الاذعان لمنطق السلطة الحاكمة وما ينطوي عليه من زيف وإجحاف واستغباء للناس غير ان مصالحهم الشخصة التي تتساوى مع المصالح الوطنية العلياء للشعوب فضلاً عن حساباتهم الانانية الضيقة مع أصحاب المظلومية تأبى عليهم إلا التمترس خلف الطرف الاقوي وتمجيد خطابه والنفخ في بوقه العالي والاشتراك معه في تعزيز ثقافة الضياع وتمييع القضايا ومضاعفة العقول والمساحات الشعبية التي تستسلم لحطابات التضليل والتجهيل العتيقة وتميط الطرف عن دوافع الفتن وغاياتها وتهتك النسيج الوطني للوحدة لتتفرغ لمحاكمة النتيجة واستنكار عناصرها بتجريم ردة فعلهم وتخوينهم أو على الأقل مساواتهم بأصحاب الجرم والبقاء في دوامة النداءات المطلقة المطالبة بتجاوز الخلافات ورأب الصدع وتشكيل لجان التحقيق والتقصي التي اصبحت بحاجة لمن يحقق معها ويتقصى حقائقها .
إن الاثار التي ترتبت على الفتن الحقيقية المفتعلة من عناصر أو مجموعات غير مرتبطة بالسلطة الحاكمة لا تساوي شيئا مقابل الاثار المدمرة التي تترتب على الفتن التي تفتعلتها عادة الانظمة مع شعوبها واوطانها في بلداننا العربية ثم تركز على طمس آثارها من خلال ما هو مطلوب من الضحية وكفى لأنها بذلك تريد للضحية ان تكون نموذجا يعلِّم بقية الناس طقوس المذلّة وشعائر الانصياع والتنازل تحقيقا لمصالح (كبرى) يتم حشدها والتلاعب بمعانيها الرنانة في مسامعهم كالاستقرار والأمان والتوافق والسيادة وثوابت الوحدة والحوار ونحو ذلك وهي مفردات تبدو مثالية بالنسبة لطابور المشتغلين بالإعلام وموجهيه الذين يعيدون تفصيلها وصياغتها بمقاسات ترسخ فقط مواقف الانظمة وتعزز قوام خطابها السادي وتشرع أيضا لكل ممارساته القمعية بل قد يصبح القمع وانتهاك الحقوق والحرمات والحجر على الضحايا من متطلبات ذلك الاستقرار الموهوم الذي ينادي به إئمة النفاق السياسي والفكري والاعلامي.
وعادة نتمنى ان لاتعود تراهن هذه الانظمة دائما على وعي وحماس الجماهير وعواطفها المعنوية وانبهارها بالشعارات من جهة وعلى استعداد الضحية للصفح والعفو عن الجاني من جهة ثانية خصوصا حين تستند الضحية إلى اساس اخلاقي يبعدها عن العنف ومن هنا نرى ان هذه الانظمة لا تهتم ولا تكترث بتبعات ما تتهور في اقدامها عليه معها من فعل مهما كانت البشاعة لأنها ضمنت مسبقا ان ردود الفعل لا ولن تشابه فعلها وبالتالي فانها لا تحمل تهديدا حقيقيا عليها ولأنها تعي أن استثمارها لاحقا في خطاب استحضار وعود الأمن والاستقرار سيرغم شريحة مؤثرة من النخب الضالة على مساعدتها في إسكات صوت الضحايا بل وإعتبار صراخها أو تألمها وتعبيرها عنه دعوة للفتنة وتحريضا عليها وتهديدا للسكينة العامة والاستقرار.