*من أغوار الزمن البائد كانت النقعة وكانت عراقتها، لم تتدنس يوماً برجس من دخلاء يعيثون فيها ظلماً أو فساداً، عدا عن أهلها المكافحون في ميادين الإباء والشرف، المنافحون عن مجدها التليد، الذين ما فتئوا يقاومون كل باطل ولو كانت ولادته على يد ثلة من أبنائه الهاربين من يد الزمن، المتناسين لعقابه الأزلي وإن بعد حين . كانت النقعة واحة جميلة من الحب والغناء، حديقة غنّاء زاهرة، زاهية الألوان بديعة المنظر، تطوف فيها أطياف المحبة والتآلف، وتحوم في جنباتها أطيار العشق والتعاون، تضلعت فيها أرواح أهلها من سلسبيل الروح العتيدة، وتنسمت أنفاسهمعبق الحياة الريفية البريئة، روح لا تحمل حقداً، لا تضمر شراً، لا تبغي فساداً، لا تروم ترفاً، لا ترتقي دركات الخبث اللعين، لا تتسافل في أوحال العهر والرذيلة .انساقت إليها الخيرات انسياقاً، وتسابقت إلى واحاتها الرحمات تسابقاً، وتعاهدها ربها وتقبلها بقبول حسن حتى نبتت في أكنافه نباتاً حسناً، ورَبَت على عينيه شعاعاً من النور والأمل المضمّخ بالمودة والتسامح، حتى سالت على أرجائها المياه الصافية الرقراقة، وسرت في عيون عيونها العيون العذبة الفوارة، وعمتها الخُضرة المتدفقة، والنضارة والوجه الحسن، حتى لتحسب أنك تراها كبقعة من أرض الأحلام،أو كواحة في كون قفر قاحل، تتراءى بارقة من بعيد لظمأى الأمل، وجياع الحب والهيام، وضعاف الإحساس بقيمة الروح الإنسانية، ومرضى القيم ومعتلي المبادئ والمثل .لما اجتاحت موجة الإلحاد والاشتراكية عموم الأرجاء، واتسع لهيبها ليحرق الهشيم المصفر ليتركه بلقعاً متجرداً من كل مفردات الروح الإنسانية، ويلبسه مسخاً من الحيوانية التي تخطّت بحيوانيتها حيوانية الحيوان، ليعمّ الجهلوالشقاء، ظلت مستمسكة بمشاعرها، قابضة على جمر العقيدة والطاعات، حتى ليُحكى أنه أتاها أحد قادة الإلحاد ليعقد اجتماعاً بأهلها الطيبين، وكان قد صادف مجيئه وقت صلاة العشاء، نظر المأفون إلى ( مقاهيها ) و ( دككها ) فلم يجد فيها عيناً تطرف، أو جفناً يرف، فسأل : أين أهلها في هذه الساعة ؟ فقيل له : إنهم في المساجد، وهذا وقت صلاة العشاء، فقال قولته الخبيثة : ألا يزال أهل النقعة متخلفين رجعيين !! . قال ذلك لما علم أنهم يعبدون ربهم، هذا الإله الذي نكروا وجوده، وكل عرق فيهم يصيح بألوهيته، وكل شعيرة في أجسادهم العفنة تنادي بربوبيته، قد أغلقوا عقولهم عن الحق بأقفال من حديد . ظلت النقعة البلدة الطيبة على علاقتها المتينة بربها، لم يشرب شبابها خمراً، ولم يعاقروا أم الخبائث، وهذا في عموم قولنا، وبمظهر الشائع العميم، إلا أنه يظل في ذلك شواذ و لا بد، والشاذ لا حكم له، بحفظ مولاها ورعايته لها لم تشتهر كبعض المناطق التي لا تبعد عنها مرمى حجر بالمعاصي التي اشتهروا بها.سارت قافلة الخير والمعروف بكل ثقة، يتقدمها شبابها المخلص الوقور، ودعاتها الشجعان الأشاوس، الذين أحدقت بهم مخاطر السمّاعين والجواسيس المريدين بهم الشر والهلاك، فجلّنا يعلم أن النشاط الديني محظور حينذاك، فأقاموا الحلقات القرآنية سراً وجهراً، و أحيوا الموائد العلمية، والدروس الوعظية، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وصبروا على اللأواء والشدائد حتى اقتلع الله شجرة الكفر والفسوق، واجتثها من عروقها إلى غير رجعة، وكفى الله شرورها أهل العقيدةوالتوحيد، فلم يلبث الخير أن عمّ وفاضت أنوار الصحوة، وسارت قافلة الخير والمعروف متقدمة بخطى ثابتة وهمة عالية، و لا نزال نعاين بركاتها ونستشعر نفعها إلى هذه الساعة .بعد حين تأثرت الأنفس بحطام الدنيا واتسخت بأنجاسها وأرجاسها، وغشتها ظلامات الأثرة والأنانية، واتسعت العصبيات البغيضة، وعمت الحزبيات العاملة لغير الإسلام ورفع رايته، وساد التفرق والتشرذم، وفشت أبخرة اللؤم و سوء الأخلاق من بعض شبابها، والبعض تعاطى أشجار الهلاك والخيبة، حتى ذهب البريق الذي كنا نراه، والسطوع الذي ظلّ يبهر برونقه الناظرين .كم نحنّ إلى ذلك الزمن الجميل، ونشتاق لمعانقة طيفه الحزين، ونساءل ملء قلوبنا ومشاعرنا: هل تعود النقعة يوماً كما كانت ؟ .