لا يلجأ الناس إلى حكومات التوافق إلا في أسوأ الظروف وبعد وصول بلدانهم إلى حالة انسداد تام. يكون هذا التوافق جيدا كمخرج طوارئ يجري العمل -خلال السير فيه- على الاتفاق بشأن القضايا الجوهرية محل الخلاف، ليغدو حلها بمثابة مدماك للمستقبل الخالي من أسباب الانسداد السابق. مرحلة التوافق هي أسوأ المراحل على الإطلاق، والتوافق مصطلح خادع يضفي على السلطة والمشهد السياسي مسحة من الوفاق المطمئن للشعب فيما الحاصل هو العكس تماما، خاصة في بلد غير مؤسسي كاليمن، وإلا لما كانت مخرج طوارئ. لا يمكن التعويل على حكومة توافقية في أي بلد لإنجاز تقدم أو تقديم خدمة للمواطن، لأن حكومة التوافق هي حكومة مؤقتة تُحتَمَلُ بكوارثها ريثما يتأسس ذلك المدماك الذي يُبنى عليه المستقبل، وكل ما يعول عليها لا يتجاوز الخروج من مرحلة التوافق بأقل الخسائر. ولهذا يشترط في السلطات التوافقية قصر الفترة، لأن طول بقائها يعني تحولها من محافظ على الموجود ومؤسس للمستقبل إلى عامل هدم للحاضر والمستقبل معا. القوى المستفيدة من استمرار هذا التوافق في بلادنا (صالح والحوثي) تستثمر هذا الوضع، وكما كانوا يكرسون جهودهم لعرقلة مؤتمر الحوار فإنهم اليوم يكرسون جهودهم لعرقلة تنفيذ مخرجاته، واستثمار مرحلة التوافق الجارية للحيلولة دون قيام الدولة التي ستفرزها نتائج الانتخابات المؤمل إجراؤها وفق منظومة سليمة تضمن نزاهتها وعدالتها، بل والتمدد –إضافة إلى ذلك- على أمل أن تسنح لهم فرصةٌ للانقضاض على السلطة، وتنفيذ الانقلاب على ثورة فبراير بشكل كامل. القوى الخارجية التي لا تريد في اليمن ديمقراطية ولا تريد لثورة فبراير أن تؤسس لدولة حديثة تقوم من جانبها بدعم هذه القوى الداخلية ولذات الأسباب، وما لم يكن هناك تحرك شعبي لتدارك ثورته فإن ثورته ستتلاشى من بين عينيه كليا وهو ينظر. لقد استمرت أحداث عمران أكثر من خمسة أشهر على مرأى ومسمع العالم إلا أنه لم يصدر أي موقف خارجي عملي بهذا الشأن سوى بعض البيانات الفضفاضة والمتقطعة بين حين وآخر مما لم يترتب عليه أي شيء في الواقع. وبمجرد أن قام الحوثي بتتويج جرائمه بالهجوم الأخير على اللواء (310) في عمران واقتحام المدينة ومؤسساتها انتفضت الأطراف الخارجية تدين وتستنكر وتشجب وتندد، وكأنها كانت فقط تنتظر من الحوثي أن يصل إلى هذه النتيجة. من الطبيعي في هذه اللحظة أن تصدر هذه المواقف الدولية بعد أن تمكن الحوثي من اقتحام مدينة عمران وتبديد اللواء 310 الذي كان مرابطا هناك ونهب أسلحته، وذلك لحرص هذه الأطراف على إيقاف الحوثي عند هذه النقطة خشية أن يكون تقدمه في المدينة سببا في خطوات أخرى مماثلة وتحقيق التوسع الذي يخرجه عن سيطرتهم وعن الحدود المرسومة له من قبلهم، ولأسباب أخرى أهمها امتصاص الغضب الشعبي وأي ردود فعل محتملة من القوى السياسية المحسوبة على الثورة. بل وحتى موقف الحكومة اليمنية الحالي لم يكن –خلال الأشهر الماضية- أكثر من تناغم مع هذه المواقف الدولية، تماما كما تناغم موقفها مع الموقاقف الدولية مؤخرا، بل حتى الكهرباء التي انطفأت بشكل شبه تام خلال أيام الهجوم الحوثي الأخير على اللواء (310) عادت مجددا بمجرد أن سقط اللواء بيد الحوثي!! إن التعويل كثيرا على هذه المواقف الدولية وانتظار الفرج منها ليس إلا انتظارا للمطر من بروق سهيل. وإذ لا يمكن -في ذات الوقت- تجاوز المواقف الدولية في هذه القضية أو غيرها فإنه لا أقل من تفعيلها بتحرك شعبي حقيقي، الأمر الذي يحتم أن تكون الدعوة إلى الاحتشاد الجمعة القادمة في ساحات وميادين الثورة بداية حقيقية لهذا التحرك الشعبي الجماهيري الذي يثمر شيئا ملموساً لا أن تكون مجرد جمعة لإثبات الحضور أو لمجرد إيصال رسائل سياسية مبطنة بتهديدات خاوية، وأن تضع هذه الحركة الشعبية المؤملة نصب عينها البعد الاستراتيجي جنبا إلى جنب إلى قضية الساعة، وأعني بالاستراتيجي هنا أن تضع نصب عينيها أن كل ما يجري اليوم في اليمن ليس إلا نتائج لهذا التوافق الخادع، وإذا لم ينصب الاهتمام الأكبر على التأسيس للديمقراطية الضامنة للجميع وخلال ما تبقى من هذا العام فإن البلد ستظل تمضي إلى الأسوأ. ويلزم أخيرا توجيه الخطاب إلى مساندي الحوثي من المحسوبين على الثورة –أشخاصا أو تكتلات- والإشارة إلى حجم التآمر الخارجي على ثورات الربيع العربي، واليمن ليست بدعا فذي لك، وإن الأحداث التي تتوالى أنحاء البلاد ليست إلا أدوات لهذه الأجندات التي تستهدف اليمن وثورتها الشبابية، ويعد الحوثي أكبر هذه الأدوات الناسفة للثورة. وإن الديمقراطية هي التي ستتكفل بإصلاح البلاد، وأيا كان الطرف الفائز في الانتخابات فلن يكتب له الخلود في السلطة، أما السير في مركبة الحوثي ومن إليه من جماعات العنف لن يفضي إلا إلى نسف الجميع بلا استثناء، بل وربما نسف البلد برمته، وذلك من خلال الإطاحة بمشروع ثورة فبراير الذي لا يزال حلما. [email protected]