سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بإيجاز.. صالح لم يعد ذلك الضابط المتخم بالحلفاء وليس بوسعه القيام بأي مغامرات .. ما مصير الموسيقى والأدب؟ وهل سيقبل التلفزيون الإصلاحي بث إعلانات الصابون؟..
عدن اون لاين/كتب: سياف الغرباني في أشد لحظات اللا توافق قسوة..كان علي عبد الله صالح يستيقظ باكرا وبعد أن يأخذ حمامه الرئاسي،يرتدي ربطة عنق أنيقة ونظارة شمسية ويتجه إلى أقرب معسكر برفقة طابور من المقربين للغاية أو من ذلك النوع من الأشخاص الذي كان يثق بهم فخامته تماما. كانت كاميرات التوجيه المعنوي تسبقه بساعات إلى المعسكر الذي اتخذ قرار زيارته عند انتهاءه للتو من التنقل بين قنوات الأخبار لمتابعة تحركات المعارضة وبداء الاسترخاء وتناول كمية مقننة من حليب المراعي عشية اليوم الذي تعقبه الزيارة. في الغالب لم تكن زيارات بريئة،أو نوع من التفسح يحتاجه موظف رئاسي للتخفف من ضغوط برنامج عمل مزدحم جدا،بل نوع من التكتيك يحتاجه رجل لامست السلطة شغاف قلبه كلما أحس بخطورة من نوع ما.ويحتاج لتوصيل رسائل ضمنية ومشفرة للخصوم في خطاب يتلقفه العامة بإعجاب ساذج ،وشيء من دهشة حيال رئيس ظهر في التلفزيون يصافح جنود مستجدين. غير أنه ذهب هذه المرة ذهب إلا الرياض، ليس لتناول حليب "الربيع" السعودي،وإنما للإمضاء أو التوقيع على وثيقة تحيله على التقاعد؛تقاعد إجباري وان بخطوات ثقيلة. كطالب بليد حمل كتبه وخربشات أيامه،لملم تفاصيل خطابات مشحونة بالصمت، مملوءة بعلامات استفهام لا تستدعيها الأسئلة، وضعها بهدوء عنيف في حقيبة صدئة الأقفال كان يثاقل في حملها، ويتعمد إسقاطها لتتناثر أمامه؛ وفي النهاية صارح نفسه بحقيقة أنه" ما عاد صالح للبقاء" وهذا هو الفارق هذه المرة. حتى اللحظة لا أعتقد أن علي عبد الله صالح قد استوعب فكرة أنه لم يعد ذلك الجنرال الذي لا يقهر، وأن التاريخ قد استضافه كماض في أحد رفوفه الكئيبة، ولو على مضض. أكاد أجزم إن الرجل لا يستطيع تخيل نفسه خارج دار الرئاسة كمواطن صالح مثلا. ولا يصدق -وهو الراقص على رؤوس الثعابين ثلاثين عاما - بأنه سلم (التركة)مقابل مجوعة حصانات بعدم الملاحقة ،أو ما يحول دون أن يكمل الأيام الأخيرة من عمره في أروقة الجنايات الدولية.بكلمة" مكافئة نهاية خدمة. كالعادة؛الرجل منتشي للغاية؛ يضن انه بتوقيع المبادرة وانتزاع كل تلك الضمانات قد أضاف نصرا سياسيا جديدا إلى سلسلة من الانتصارات اللامتناهية، وربما لا يخرج عن كونه انتصارا للشرعية الدستورية التي نصب نفسه حارسا لها في اعتقاده..إذ كان يتصرف أثناء التوقيع أمام عدسات التلفزة وكأنه عبقري غير معترف به، بينما كانت تنظر إليه الدنيا كلها نظرتها إلى أبله. قد يكون محقا في ذلك..من يدري؟.
قد لا أكون مبالغاً بجزمي أن حال علي عبد الله صالح بات شبيهاً برجل يكابد عناء الاحتضار ويقاسي تداعيات الموت البطيء؛ يصعب على أي ديكتاتور أن يعيش التفاصيل الدقيقة لعملية الانتزاع التدريجي لصلاحياته وسلطاته المطلقة، سأزعم هنا أن (الخلع المفاجئ) يمكن أن يجسد بالنسبة لأي ديكتاتور عذاباً أدنى من الانتزاع التدريجي الذي يمكن نعته بالعذاب الأكبر،ومن حسن حظ الرئيس "الشرفي" انه لم يكن ديكتاتور كامل..ربما نصف. علي عبد الله صالح رجل لا يهدأ ، مقولة شعبية تشخص وتلخص عيباً من أبرز عيوب هذا الرجل، حين كانت المداولات بشأن مصيره تجري في كواليس المبادرة الخليجية قيل أنه أبدى اعتراضاً شديداً على مقترح يقضي بانتقاله إلى إحدى العواصم الخليجية أو الغربية للعيش فيها بصورة دائمة عقب التوقيع، لقد كانت الإقامة الدائمة في الخليج بالنسبة إليه أشبه بسجن مؤبد لأنه وباختصار شديد مشاغب. عندما تسلم الرجل الحكم في 1978، كان متقد الذكاء، ويتحلى بروح المغامرة. كان ذكياً أكثر منه قوياً، عامئذ، لم يكن الذكاء وحده كافٍ كي تستتب مقاليد الأمور لشخص لامست فكرة الزعامة شغاف قلبه. كانت الأجواء السياسية على قدر عالٍ من التعقيد ، كان على الضابط، الذي يتكئ إلى قدرات شخصية جيدة بمعايير تلك الحقبة، أن يستمد القوة من أصحابها الحصريين. باشر الرجل من أول وهلة، عقد أحلاف مقدسة مع أكثر القوى تقليدية وفتكاً" القبائل" هذا فيما خص الداخل، أما في المحيط الإقليمي فقد منحته السعودية إشارة العبور إلى رأس الهرم. فوق ذلك، وطد الرئيس صالح علاقته مع قوة أخرى نابضة بالحياة، بيد أنها لم تكن من التأثير بحيث يمكن الارتياب منها، كالناصريين، أو اليساريين،لاحقاً عمد إلى تسوية علاقته برموز المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه مناطقياً . انتهى عقد الثمانينيات والرجل قد صار متخما بالحلفاء الأقوياء، ولم يكن حينها، سوى ذكي ومراوغ لا أكثر. كانت تحالفات على درجة عالية من المتانة، لكنها لم تكن مصيرية. في 1990 أضاف الرجل إلى خارطة أحلافه كائن ضخم،الحزب الاشتراكي اليمني؛ في الواقع لم يكن حليفاً وفق التقاليد السياسية، وكانت فرص تطويعه غير مواتية بالمرة، إنه عملاق وشريك سياسي ناضج، لا يسع أحداً تخطيه، وصالح لا يقبل أن يكون له ند مهما كلف الأمر. قبل عاصفة 94، بدأ الرئيس صالح يستنفر احتياطي قوته( الإخوان المسلمين) دخل الإخوان معه الحرب، طبخوا الفتاوى على عجل،ومن ثم قاتلوا باستماتة واستبسال في صفه؛ أحرز نصراً سياسيا وعسكريا مدوياً بفضل شركاء الحرب حينها(التيار الديني القبلي )ومن ثم انفرطت علاقته بالإخوان تماما في2001،كما هو الحال مع القبيلة عقب موت عبد الله بن حسن الأحمر. بإيجاز؛علي عبد الله صالح لم يعد ذلك الضابط المتخم بالحلفاء، وليس بوسعه أن يقوم بأي مغامرات من أي نوع.النائب عبدربه منصور هو الرئيس الفعلي الآن؛ قرار الدعوة للانتخابات الرئاسية أصبح نافذاً، والعد العكسي لتنفيذ المبادرة والآلية يتقادم وأي تراجع من جانبه سيعد انتحاراً سياسياً وستكون له عواقب يدركها الرجل الخطير المتلاعب بالكروت. ما يثير الغرابة فعلا، هو أن وسائل الإعلام الموالية للثورة والمعبرة عن بعض المستاءين من التسوية تشتغل على قابلية الناس لتصديق أن علي عبدا لله صالح يخطط لإشعال الحرب مسترشدين بما حصل عقب التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق في 94. إنها تنقل أخبار ومعلومات تركز على إثبات هذه الفرضية.. الرئيس لا يكترث لفكرة الأيام الأخيرة هذه، أو يصدقها، وأن لديه حساباته ونبوءاته الخاصة ويدرك كيف يبقي الوضع والقبائل بحاجة لبقائه. لقد ذهب كل شيء، وأظن بوسعنا الاحتفاظ بعملنا المدهش هذا. يتطلب الأمر فقط مخيلة ليس بالضرورة خصبة أو جدباء، بل مخيلة أي موسوس. لست مطمئنا لكون هذه الحكومة انتقاليه نتجاوز بها إمكانية انفجار عنف شامل ؛أخشى أنها رضوخ لمصير لعين اسمه التسوية،إذ لا أكثر حمية من مقولات التحقير الذكية لكل ما يتهدد حياة من لم يحصل على وظيفة بعد.إنه يفكر في صعدة وربما يوقظون الجنوب ويستخدمون غضبه. إنه أكيد من معرفتهم الكاملة بمشكلات البلد، وجميعنا يعرف أيضاً أنهم يستخدمون كل ما هو عام، في ما هو شخصي للغاية. ليس من الحكمة التعامل مع الثورة وكأنها قطعة أثاث مرمية على الرصيف بإمكان أي شخص أن يلتقطها ويحتفظ بها لنفسه. .متى يمكن القول: الثورة حققت كل أهدافها، ومع كل مجابهة من هذا القبيل، يفكر الناس في احتمال وصول الإصلاحيين إلى السلطة؛ كيف سيكون الأمر مع الموسيقى والأدب؟ وهل سيقبل التلفزيون الإصلاحي بث إعلانات الصابون؟.