إما إن تعزل نفسك، وإما سنعزلك نحن بطريقتنا، تعبير يمكن استقراؤه كإحدى الدلالات الواضحة لبروفة العزل الدبلوماسي التي نفذتها الدول الغربية مع الرئيس صالح منذ عودته، إذ لم تعد سفارات تلك الدول تتعاطى معه بشكل مباشر، حيث أضحى نشاطها وتفاعلها منحصراً في عبد ربه والقربى. في الواقع، لا يمكن الاكتفاء بتوصيف (البروفة) لنعت إجراءات العزلة التي يعانيها الرئيس صالح، إنها بتعبير أدق: مقدمة لإجراءات تكميلية أكثر حزماً وصرامة، إنهم ببساطة: يحاولون إقناعه باستحالة أن يبقى رئيساً تحت أي ظروف أو أوضاع، فتعهدات التنحي بالنسبة إليهم تعني إن الرجل أضحى في حكم المتنحي فعلاً ولم يعد الإعلان عن ذلك رسمياً سوى إجراء شكلي ليس أكثر. في المقابل، يعتقد اللواء علي محسن الأحمر أن أمريكا وأوروبا يعدان لطبخة من نوع ما ضده وبالاتفاق مع الرئيس علي عبد الله صالح. لأن الوسطاء يمارسون ضغطا متساو على الطرفين. هذا باختصار سبب إقدام الفرقة على اختطاف مراسل رويترز ومترجم الرئيس.. أراد اللواء علي محسن الحصول على معلومات مباشرة من المترجم الخاص للرئيس صالح الذي تتم عبره كل الوشوشات والاتصالات مع الأمريكيين والأوروبيين. وقد كانت البراءة طافحة في كلام اللواء وهو يقول: إنه لم يختطف الزميل محمد صدام لأنه صحفي بل لأنه مترجم الرئيس. على أي حال ،الثورات تقاس بأهدافها ونتائجها لاحقا, وإلا فليس كل استيلاء على السلطة ثورة. فهذا لا يتطلب سوى دورات عنف ، وإلا بالنسبة لي لا ضير من اعتبار حتى تمرد الحوثي في صعدة ثورة، وهو باللغة الأكاديمية ثورة أو عمل شبه ثوري. المجتمع الدولي يتعامل مع "طرفين" داخل اليمن يساوي بينهما في مسئولية الخروج من "الأزمة"، مع دعمه الصريح لانتقال السلطة.وضرورة التوقيع على مبادرة الخليجيين. بالتأكيد قرار مجلس الأمن كان واضحا، وكذا تصريحات مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، جمال بن عمر، وانتقال السلطة، بنظر الوسطاء، لن تتم إلا بالتوافق بين هذين الطرفين..أي أنه، وأيا كانت طبيعة القرار الذي صدر من مجلس الأمن، فإن أمريكا وأوروبا والخليج يستبدلون تركيز الضغط على الرئيس صالح، بالضغط على هذا الأخير والمعارضة وعلى رأسها العسكر المنشقون وحلفائهم القبليين. المجتمع الدولي، بكلمة، يجد في الانقسام العسكري داخل اليمن، بين صالح ومحسن،والصراع بين مراكز القوى ، مبررا للتخفف من مسئولية دعم التغيير الكامل، غير المشروط، والذي خرجت من أجله ثورة. يتعمد الكثير من الرومانسيون، الهرب من هكذا حقيقة إلى دوائر من فراغ ، و يعده آخرون كلاما ممنوعا ينم عن تواطؤ من نوع ما.. نحتاج إلى مجتمع دولي ساذج جدا أو سطحي للغاية يفكر بدماغنا تماما، ونستطيع إقناعه بأن المشكلة تكمن في رأس الرئيس وحده. يبدوا أن الثورة لا تريد أن تساعد نفسها إطلاقا، أو هكذا أظن الأمر. هل من جديد نتوخى بموجبه جديدا من الموقف الدولي، قالها وعبر عنها مرارا: ثورتكم لا قيادة لها. والذين يتصدرون الثورة هم خصوم لشخص صالح، والمناصرون والحماة المسلحون هم، أدلة ضد، على سلمية الثورة،كما أن المنشقين عن الجيش، أدلة على أن الأزمة أقرب إلى كونها صراع ربما شخصي للغاية ،عن كونها ثورة.يبدوا الرئيس صالح مرتبك للغاية،إذ لم يعد الرجل ذلك الذي لا يقهر،غير أنه يقارع الثورة بأخطائها، فيما الثوار(مجازا) لا يقرون بوجود أخطاء.غير أن ذلك لا يعني أنه ضعيفا إلى تلك الدرجة التي يعتقدها البعض، وبخطوة يستطيع خلط كل الأوراق. غير أنه يعلن الحرب على الفراغ،هذا كل ما في الأمر المضمون الذي كانت عليه الثورة عند اندلاعها لأول مرة قبل ثمانية أشهر تقريبا، ليس هو نفسه الآن، لقد تم تبديله على حين غرة. ثم إلى أي حد باتت خياراتها مستنفدة في تعاطيها مع قضية أكثر تعقيداً مما تبدوا عليه. إنها عنوان عريض جداً لصراع ملتبس ولا متناه.
صحيح ،أن الثورة بدت لوهلة سلمية وحضارية بامتياز. لكنها لم تكن على درجة عالية من الذكي ، وربما لم تفكر مطلقا، بما يحول دون أن يصبح وجود بعض الشخصيات سيئة الصيت، دعامة مساندة لصالح، ويؤجل لحظة سقوطه. وفي نفس الوقت، يستفز مشاعر الطرف المتضرر من (أحلاف) حرب صيف 94م. ما أود قوله ببساطة،هو أن رحيل الرجل مسألة وقت، والفترة المتبقية مجرد وقت لاعداد البديل المناسب ،غير أن رحيله وحده ليس حلا سحريا- حسب تعبير السفيرة الأمريكية السابقة في اليمن- لازمة بالغة التعقيد،على هذا النحو. عندما تسلم الرجل الحكم في 1978، كان متقد الذكاء، ويتحلى بروح المغامرة. كان ذكياً أكثر منه قوياً. عامئذ، لم يكن الذكاء وحده كافٍ كي تستتب مقاليد الأمور لشخص لامست فكرة الزعامة شغاف قلبه. كانت الأجواء السياسية على قدر عالٍ من التعقيد ح، كان على الضابط، الذي يتكئ إلى قدرات شخصية جيدة بمعايير تلك الحقبة، أن يستمد القوة من أصحابها الحصريين. باشر الرجل من أول وهلة، عقد أحلاف مقدسة مع أكثر القوى تقليدية وفتكاً: القبائل. هذا فيما خص الداخل، أما في المحيط الإقليمي فقد منحته السعودية، إشارة العبور إلى رأس الهرم. فوق ذلك، وطد الرئيس صالح علاقته مع قوة أخرى نابضة بالحياة، بيد أنها لم تكن من التأثير بحيث يمكن الارتياب منها، كالناصريين، أو اليساريين،لاحقاً عمد إلى تسوية علاقته برموز المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه مناطقياً انتهى عقد الثمانينيات.والرجل قد صار متخما بالحلفاء الأقوياء، ولم يكن حينها، سوى ذكي ومراوغ لا أكثر. كانت تحالفات على درجة عالية من المتانة ، لكنها لم تكن مصيرية. في 1990 أضاف الرجل إلى خارطة أحلافه كائن ضخم،الحزب الاشتراكي اليمني. في الواقع، لم يكن حليفاً وفق التقاليد السياسية، وكانت فرص تطويعه غير مواتية بالمرة. إنه عملاق، وشريك سياسي ناضج، لا يسع أحداً تخطيه. وصالح لا يقبل أن يكون له ند مهما كلف الأمر. قبل عاصفة 94، بدأ الرئيس صالح يستنفر احتياطي قوته: الإخوان المسلمين. دخل الإخوان معه الحرب، طبخوا الفتاوى على عجل،ومن ثم قاتلوا باستماتة واستبسال في صفه. أحرز نصراً سياسيا مدوياً، بفضل شركاء الحرب حينها .
علاقة الرئيس صالح الوطيدة بالإخوان المسلمين بدأت عقب أن خاض الطرفان حرب ضروس ، صيف94م. لم تُفضِ إلى شيء، بقدر ما كانت مقدمة لحروبات مفتوحة،وبلا عنوان على هذا النحو، اذ ثمة ما يشبه مقدمات لمرحلة جديدة من الصراعات، حيث تتقلص كافة الخيارات ويصير الموت، والدماء، والأشلاء، الخيار رقم (1). لا أستطيع الادعاء بأنني متفائل. يعود ذلك إلى كون ساحتا ردفان والمنصورة، الجمعة قبل الماضية، قد جردتنا تماماً من إمكانية التوهم بأن الماضي المفعم بالجراح والخيبة والألم لم يعد يداهم الجنوبيين بين الحين والآخر. إذ تسود حالة من التعطش الجماعي إلى الماضي السحيق والقريب. اتجاه إجباري إلى الخلف،هل بلغ الحراك درجة الغليان الذي يتعذر إخماده؟.
في حرب صيف 94، هتف المقاتلون بشعار "الوحدة أو الموت". وما أخشاه حقا،هو أن يبدءا الجنوب بترديد نفس الشعار، مع تحوير بسيط "الاستقلال أو الموت مثلا .شخصيا،أتساءل ما أن كان الشمال بحاجة فعلا لترديد هكذا شعار بدائي و فج ومستفز. الجنوب يحتاج إلى اعتذار فوري، ربما قد يحدث ذلك فارقاً لصالح إيقاف التداعيات وتجاوز هذا الفخ وإن بحركة ثقيلة. ليس لإزالة آثار أخطاء حلفاء الماضي والحرب، بقدر ما هو للحصول على الوقت اللازم للتفكير بطريقة سوية.
لست اللواء مهدي مقولة بالطبع.كما لا تمتني بأحد ناهبي أراضي عدن أي صلة ، وانفراط الوحدة ، لن يمثل موتا لمصالح 20 عاما. بالكاد أعرف عدن، وبالكاد أتذكر تحلق الناس حول الراديو على سطح بيتنا في القرية أثناء حرب 94 .ربما احتفاء مؤذن الجامع بسقوط قاعدة العند هو المشهد الوحيد الذي علق بذاكرتي الصغيرة، ذاكرتي أنا الذي ولدت قبل العام الذي تمت فيه الوحدة بسنة تقريبا.
غير أن لدي أصدقاء كثر من الجنوب ،وأعترف أن الحديث عن أشاء من قبيل الانفصال وفك الارتباط ، محبط للغاية. لا أدري لماذا، ربما لأن الوحدة ، بالنسبة لي، صارت تعني شيئا بعد أن عرفتهم فقط ؛من ينتزعهم مني، لست مستعد للتردد على باب سفارة الجنوب العربي في صنعاء ،لا أطيق روتين السفارات الممل.أفكر هكذا الآن، على افتراض أن الانفصال لن يكون فادحا إلى درجة القطيعة المطلقة مع الشمال،على الأقل.. نوع من علاقات دوبلماسية نهاية المطاف. [email protected]