ارتفاع ضحايا قصف العدو الصهيوني لمدرستين تأويان نازحين الى 52 شهيدا    الجنوب.. معاناة إنسانية في ظل ازمة اقتصادية وهروب المسئولين    قيادي في "أنصار الله" يوضح حقيقة تصريحات ترامب حول وقف إطلاق النار في اليمن    اليوم انطلاق منافسات الدوري العام لأندية الدرجة الثانية لكرة السلة    هي الثانية خلال أسبوع ..فقدان مقاتلة أمريكية "F-18" في البحر الأحمر    كيف تُسقِط باكستان مقاتلات هندية داخل العمق؟    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الاربعاء 7 مايو/آيار2025    وزير الشباب ومحافظ ذمار يتفقدان أنشطة الدروات الصيفية    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    عشرات القتلى والجرحى بقصف متبادل وباكستان تعلن إسقاط 5 مقاتلات هندية    الإرياني: استسلام المليشيا فرصة تاريخية يجب عدم تفويتها والمضي نحو الحسم الشامل    الكشف عن الخسائر في مطار صنعاء الدولي    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    مكون التغيير والتحرير يعمل على تفعيل لجانه في حضرموت    إقالة بن مبارك تستوجب دستوريا تشكيل حكومة جديدة    57 عام من الشطحات الثورية.    الحوثيين فرضوا أنفسهم كلاعب رئيسي يفاوض قوى كبرى    الإمارات تكتب سطر الحقيقة الأخير    تتويج فريق الأهلي ببطولة الدوري السعودي للمحترفين الإلكتروني eSPL    في الدوري السعودي:"كلاسيكو" مفترق طرق يجمع النصر والاتحاد .. والرائد "يتربص" بالهلال    بذكريات سيميوني.. رونالدو يضع بنزيما في دائرة الانتقام    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    صرف النصف الاول من معاش شهر فبراير 2021    لماذا ارتكب نتنياهو خطيئة العُمر بإرسالِ طائراته لقصف اليمن؟ وكيف سيكون الرّد اليمنيّ الوشيك؟    طالبات هندسة بجامعة صنعاء يبتكرن آلة انتاج مذهلة ..(صورة)    بين البصر والبصيرة… مأساة وطن..!!    التكتل الوطني: القصف الإسرائيلي على اليمن انتهاك للسيادة والحوثي شريك في الخراب    بامحيمود: نؤيد المطالب المشروعة لأبناء حضرموت ونرفض أي مشاريع خارجة عن الثوابت    الرئيس المشاط: هذا ما ابلغنا به الامريكي؟ ما سيحدث ب «زيارة ترامب»!    تواصل فعاليات أسبوع المرور العربي في المحافظات المحررة لليوم الثالث    النفط يرتفع أكثر من 1 بالمائة رغم المخاوف بشأن فائض المعروض    الكهرباء أول اختبار لرئيس الوزراء الجديد وصيف عدن يصب الزيت على النار    الوزير الزعوري: الحرب تسببت في انهيار العملة وتدهور الخدمات.. والحل يبدأ بفك الارتباط الاقتصادي بين صنعاء وعدن    إنتر ميلان يحشد جماهيره ونجومه السابقين بمواجهة برشلونة    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 6 مايو/آيار2025    أكاديميي جامعات جنوب يطالبون التحالف بالضغط لصرف رواتبهم وتحسين معيشتهم    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    ودافة يا بن بريك    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    انقطاع الكهرباء يتسبب بوفاة زوجين في عدن    برشلونة يواجه إنتر وسان جيرمان مع أرسنال والهدف نهائي أبطال أوروبا    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات المغتربين اليمنيين ..هاربون من الجحيم.. إلى الجحيم!
نشر في عدن أون لاين يوم 03 - 06 - 2012

عدن أون لاين/ خليج عدن-إبراهيم علي ناجي
منذ الأزل واليمنيين يجيدون فن خالداً يحكي للأجيال المتلاحقة براعة ما صنعوا..حيث ظلت تلك الصفة لصيقة كابراً عن كابر حتى وقتنا الراهن؛ لتأتي انتهاكات الجارة موضحة لهذه المعاناة, هذا ما تؤكده الأحداث والوقائع المتتابعة، فقد أثقلت الظروف القاهرة كاهل كثيرين، ورفع الجميع شعار «غُربة.. غُربة.. ولو تهريب»

تهريب وهروب
أن تُهرب السلع من مكان لآخر بدواعي الخوف من الضرائب أو القوانين المعقدة أو لأي سبب آخر، شيء بديهي ومُعتاد وينتشر في كل بلدان الله، كما أن المتاجرة بأجساد بشرية «الرقيق» هو الآخر أقل حضوراً وينتشر في بعض البلدان؛ لكن أن يهرب الإنسان نفسه وبمحض إرادته فهذا «أمر عجيب!!» لا يحدث إلا في «اليمن»!.
- إنها اليمن المسحوقة.. حيث يزداد الغني غنى والفقير فقراً، وهكذا دواليك.. ففي الوقت الذي نرى فيه قصوراً واسعة وبروجاً شاهقة، وقلاعاً متكئة على قمم الجبال، تتعالى وتتسع مطامع أصحابها في سبيل الحصول على وادي الذهب الآخر، نجد في الجانب الثاني أصحاب الأكواخ البسطاء قد هدهم الفقر، ينكمشون وتختنق أمانيهم، وتتراجع أحلامهم،

تراكمات خلفتها الأوضاع المتدهورة
كنتاج فعلي لهذا التباين المقيت وعدم تحقق الإنصاف المأمول، ولدت ظاهرة التهريب «الآدمي» وتكاثرت بتوسع مُلفت، وغدت فكراً وثقافة رائجة لجميع أعضاء هذه الفئة المسحوقة.. التي استضعفها التسلط ودفع بها الاستبداد قسراُ بعيداً عن الدار والأهل والوطن.. إنهم مواطنون ذاقوا الأمرين البقاء في بلد مُنهك على الدوام، أو الهروب إلى المجهول «خياران أحلاهما مُر..».
- حسب توصيف كثير من المُهتمين فإن هذه الظاهرة ما هي إلا مُحصلة لتراكمات نفسية واجتماعية واقتصادية خلفتها أوضاعنا المتدهورة.. وأن ذات المعاناة مازالت تتجسد يوما بعد يوم، حيث أدركوا أن كل شيء في هذا الوطن في ارتفاع إلا قيمة المواطن، فاستجاروا بالرمضاء من النار، وفضلوا بذلك العيش في وضع «لا قانوني» مطارد وراء الحدود، على العودة إلى وضع «لا إنساني» لا يطاق في أرض الجدود..
ليالي الحدود
تشترك السعودية في حدودها مع اليمن بنحو «1470» كيلومترا، وخلافاً لعلامات الترسيم الحدودية التي قامت إثر اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين، هناك حدود قبلية تمتد ما بعد علامات الترسيم داخل أراضي الدولتين، وهناك أكثر من منفذ حدودي منتعش على مدار العام.
- من بين كل ذلك، يبقى منفذ «الطوال» هو الأشهر على الإطلاق.. ك «بوابة رئيسية» تحتشد إليها قلوب كل العاطلين، فمن خلاله يحاول هؤلاء التعساء التوغل في الأراضي السعودية، مُستغلين التضاريس الجبلية الوعرة، والقرى الحدودية المتداخلة، والليالي الأشد قسوة، يعبرون بعد أن يدفع كل واحد منهم «200» ريال يمني لعساكر النقطة «اليمنية» مقابل السماح بالعبور إلى «الزبير» - وهو خط رملي مرتفع حوالي «30» متراً ويعتبر آخر نقطة في الأراضي اليمنية- كما يُعد منفذ «الطوال» محطة فاصلة لانطفاء أحلام الغربة والمستقبل المنشود.. ف «تسفير» غالبية المتسللين يتم أيضاً من خلاله.

ترحيل يومي
تُفيد تقارير أمنية يمنية عن تسلل أكثر من «600,000» مواطن يمني تقريبا خلال العام الواحد.. وبالمقابل تُرحل السلطات السعودية عبر منفذ «الطوال» الأنف الذكر وبشكل يومي ما بين «1500 2500»، ويزداد العدد ليصل في بعض الأيام من كل أسبوع إلى «2500 4000»، وخلال العام الهجري الفائت مثلاً تم ترحيل نحو «180,000» شخص من ذات المنفذ، وكانت إحصائية شاملة لسلاح الحدود السعودي أكدت ضبط نحو «300,000» متسلل خلال نفس العام اغلبهم من الجنسيات اليمنية والأفريقية.
الصحافة السعودية تعمق المأساة
صورة اليمني في الصحافة السعودية تُختزل بذلك المُتسلل مجهول الهوية، والخطر الداهم المُراد كبح جماحه؛ وتُحشر قضاياه بسطور مُستفزة و«مانشتات» باهتة.. لتأتي التفاصيل بقصص بعيدة عن الواقع لممارسات وسلوكيات مُخلة بالأمن العام، مثل السرقة والقتل وتشكيل عصابات، وغير ذلك كثير.. بل وصل الأمر عند تجار الفتاوى الدينية أن تجرأ أحدهم على الله ومبادئ الإنسانية المُثلى، وأفتى بجواز قتل المُتسللين على الحدود، ولا ندري من أي شريعة استنبط ما يرجح فتواه!
الأجنبي أرحم
ومن خلال هذا الاستدلال لا أود تَعكير صفو الاتفاقيات الأخيرة المُلزمة، ولكن إحياء اتفاقيات سابقة غُيبت بعد طمرها نخاسو الأرض وباعة الأوطان، ف «اتفاقية الطائف» المغيبة فيها تركيز على الجوانب الإنسانية أكثر، وهناك ما يشبهها على الأرض تطبيقاً، فالمكسيكيون جيران أمريكا - مثلاً- لهم الحق بالعمل في هذه الأخيرة قبل أي جنسية أخرى لسبب وحيد فقط هو «الجيرة»، ونتمنى من هؤلاء أن يحثوا على مثل ذلك، بدلاً من التوهان في فتاوى جانبية تصور الإسلام دين الأخوة والتسامح، بأنه دين غير أممي لا يحض على مكارم الأخلاق.
- كما نذكر هؤلاء أن بلادهم العربية السعودية كانت قد اتفقت خلال الفترة الماضية مع شركة ألمانية تسمى «إيدس» على إقامة كاميرات مراقبة و أجهزة مراقبة على امتداد الحدود اليمنية، إلا أن تلك الشركة انسحبت من هذا المشروع لأسباب إنسانية بحتة، منها أن اليمن تُعاني البطالة المقنعة ودخل الفرد اليمني منخفض جداً إذا ما قورن بدول الجوار، إضافة إلى تدفق المهاجرين الصوماليين على اليمن بأعداد كبيرة.. كما أن جنود باكستانيين رفضوا الخدمة في ذلك «الخط الساخن» بحجة أن الاتفاقية التي أتت بهم تقضي بأن لا يقتل أحدهم مُسلماً.

الجدار الاستعلائي
ذاك التصرف الإنساني لتلك الشركة الألمانية لم يثني السلطات السعودية عن الاستمرار بذاك المشروع العملاق الذي سيكلفها مليارات كثيرة، بل قالت بعض الصحف أن «المملكة تنفذ أكبر مشروع لها على حدودها مع اليمن» مُستعينة - أي المملكة- بخبراء عالميين ودراسات ومعدات متقدمة من أجل القضاء نهائياً على ظاهرة التهريب وتسلل اليمنيين إلى أراضيها.
- والأكثر غرابة أن ذلك السياج وتلك المشاريع الحدودية أمرها معروف سلفاً، وفقاً لاتفاقية الحدود التي وقعها الصالح نفسه في العام 2000م..؟!!، وما ينبغي أن ندركه أن النظام البائد عمل على إذلالنا طول الوقت في «الداخل والخارج»، وحول ال«يمنيين» إلى سلعة مبتذلة يمقتها الجميع.

حلول بديلة
أمام هذه المفارقات العجيبة، ثمة ما يدعو للأمل واستشراف المستقبل الأفضل، وهناك من يعترض ويدعوا من داخل المملكة نفسها إلى إيجاد حلول بديلة تتفق ومبادئ الدين الحنيف، وتوقف تلك المهازل «المادي منها والمعنوي»، ومن ضمن الحلول المقترحة: استغلال تلك الأموال التي ستصرف هدراً في عزل أبناء الجزيرة العربية عن بعضهم.. في إنشاء وبناء مشاريع مُشتركة على الحدود، لأن هذا الحل الإيجابي سيحد من ظاهرة تسلل المواطنين، فالبحث عن لقمة العيش خلف المجهول سبب سيزول ويتبدد بمجرد البدء بهذه الخطوة الجبارة، وسيجد هؤلاء الهاربون مبتغاهم وضالتهم المنشودة بأمان، وسيتوقفون عن المخاطرة بأرواحهم وإلى الأبد.
- وبالمقابل هناك اقتراح يمني هذه المرة يحث النظام التوافقي الجديد والحكومة الجديدة على العمل الجاد في استعادة قيمة المواطن اليمني كإنسان، وإلا فعلى وزارة الخارجية أن تبادر بإغلاق السفارات اليمنية حول العالم ودول الجوار بالذات؛ لأن وجودها مثل عدمها، وان تكلف لأجل ذلك أي سفارة لدولة أخرى، على اعتبار أن هذه الخطوة ستوفر للدولة مبالغ كبيرة، وفي نفس الوقت سيجد المواطن اليمني احتراما وتكريما أفضل مما نحن فيه الآن..!!.

سجون القسوة!!
بتزايد تدفق الآلاف صوب الحدود.. تتفاقم مشاهد ترحيلهم وتتعاظم صور معاناتهم فيما يشبه الكارثة.. يُرحل بعضهم مرات ومرات.. رغم السجون والمرارة.. يحملون «صخرة » فوق أعناقهم المُجهدة.. ويصرون على تكرار المحاولة أكثر من مرة.. فمشاهد «الترحيل» واقع مُر قد تعايشوا معه وألفوه..
- تلك الانتهاكات.. لم تكن بتلك الصورة من قبل، حيث كان يكتفى «بتسفير» من يلقى القبض عليه فوراً.

ومضات
لجأت السلطات السعودية إلى تنفيذ عدد من الاحترازات الأمنية ك «الكاميرات الحرارية، وانتشار الدوريات الأمنية بكثافة» وكذلك تطبيق «نظام البصمة» على كل من ألقي القبض عليه قبل إعادته وهنا يروي احدهم بأسى باذخ - وهو «مُرحل» مُستجد- تفاصيل عذابات ومرارة عاشها وآخرين.. اقتادوهم من الشارع، عجزت توسلاتهم وصراخهم عن إيقاف سيول جارفة من «لطم ودكم ودلهفة ..»، وفي سجون ما قبل الترحيل أجبروا على النوم بلا أكل وفوق البلاط بلا بطانيات؛ ولأن «فضل» لم يتكرر اسمه في كشوفات «المرحلين» سابقاً حُبس «15» يوماً فقط، أما من تكرر اسمه بفعل البصمة فمصيره السجن سنوات، ومؤخراً كشفت وثائق وتصريحات دبلوماسية رفيعة عن وجود أكثر من «6000» مواطن يمني قابعين في تلك السجون، غالبيتهم من أولئك المتسللين «مجهولي الهوية».. ينتظرون بشغف الترحيل إلى اليمن أو إلى الآخرة!!.

حمامات الموت
هناك شكاوى كثيرة ل «مُرحلين» أفادوا أن عساكر يعتقلونهم ويضعونهم في حمامات، ويمنع عنهم الطعام والماء في ظروف الحرارة الشديدة، وسجناء آخرون قضوا نحبهم غرقا بسيول الأمطار في إحدى سجونها القابعة تحت الأرض، كما سجلت خلال العام قبل الماضي «4» حالات وفاة في تلك السجون، «3» منها كانت بسبب الازدحام الشديد، وحالة قتل واحدة نتيجة شجار، وقال أحدهم أنه تعرض للضرب المبرح وأن الجنود أمعنوا في امتهانه بخلط كيس تبغ مطحون «شمة» بقنينة ماء وأرغموه على شربها، وكشف آخرون قضوا أشهرا في سجون «عسير ونجران » أن الأمر أشبه ب «الكارثة»، ومن يعترض ويتأوه من تلك الإجراءات يعذب بالكهرباء.. وما يجدر ذكره حسب «مُرحلين» سابقين أن تلك الانتهاكات لم تكن بتلك الصورة من قبل، حيث كان يكتفى «بتسفير» من يلقى القبض عليه فوراً.

ليته لم يعد!!
أوجاع مُتتالية تنهال على عقل اليمني فتصيبه ب «الانفجار».. كثيرون استغنوا عن عقولهم فجأة، وفروا بكل سهولة إلى واقع بائس لا يطاق.. مع شمس كل يوم ينضم إليهم زائر مستديم شعاره «جنان يخارجك ولا عقل يحنبك»، صحيح أن الأسباب تتعدد ولا يمكن حشرها في هذه التناولة، إلا أن محور قضيتنا سبب بارز لا يمكن غض الطرف عنه، خاصة وأن ثمة شواهد حية قابلتني لم أستطع تجاهلها.
- مجنون عاد مؤخرا من حدود الجارة ، يرتدي ملابس مهترئة، ممزقة الجوانب، جعلته شبه عاري، تراكمت الأوساخ عليه حيث صعب تحديد لون بشرته، ذو قامة هزيلة، وشعر متجعد مصبوغ بالأوحال، من ملامحه يبدو أنه في الخمسينيات من عمره، يعمل بصمت وروية في نبش براميل القمامة ليقتات منها.. لا أحد يعلم له اسماً، ولا شيء من تفاصيل ماضيه، سوى معلومات شاردة تلوكها الألسن بمنطقة «الجملة» بأنه عاد من خلف الحدود بهذه الحالة، وثمة دليل مادي يؤكد ما قيل، فالثوب المهترئ والممزق الذي يرتديه والذي لم يعد أبيض.
- كل ما سبق.. أسباب اجتمعت لمعرفة المزيد عن حياة ذلك المسكين، كان ضمن المُغتربين المنفيين إلى بلدهم، فاستقبله اليمن ليس كما قيل بالأحضان ولكن بالأحزان؛ «المُهم» لم يستطع بسيارته التي عاد بها أن يؤمن مُتطلبات أسرته، هجرها حتى سرقت قطعة قطعة، وترك أولاده الثمانية وأمهم وأمه في قريته الواقعة ضمن إحدى المديريات ليعيشوا بما يجود به أهالي المنطقة عليهم.

شعب مغلوب ومطحون
عُقود مضت بعد ذاك الوجع الأبيض المُغمس بالدم، وذات الحدود أشد التهاباً في دوامة «صراع بالوكالة» وجد اليمنيون التعايش «معه ومنه» باقتدار لافت وتعصب فج دوناً عن عباد الله، ولم يكن في ذات الصراع غالب ولا مغلوب.. ليبرز إلى السطح وفي الآونة الأخيرة وخلال ال «22» عاماً الفائتة صراع مختلف اسمه «لقمة العيش».. وهو صراع مُقلق وأشد ضراوة ولا يمكن أن يفصل فيه لا مجلس الأمن ولا أي مبادرات أمميه أو إسلامية.. والشعب اليمني في كل الأحول مغلوب ومطحون.. ولا ناصر له إلا الله أو ظهور المسيح المُخلص.

عذابات مسكونة بالخوف
- وفي السياق تفاصيل تدعو للأسى على شعب شتتته الحاجة في كل مكان؛ استسهلوا الصعب، واجتازوا طُرق محفوفة بالمخاطر، وملغومة ب «رصاص وأسلاك شائكة وحرس حدود وأفاعي وذئاب..»، يستريحون في النهار ويتخذون من جنح الظلام ساترا للوصول إلى مبتغاهم، والصدفة هي الفيصل في النجاة من كل ذلك.. الرحلة لم تعد «شتاء أوصيف» بل صارت في كل الفصول.. ومسكونة «بالجوع والخوف».. وكأنه قدر «فمزقناهم كل ممزق».. والسؤال الذي يفرض نفسه «هل مازال هؤلاء كافرين بما أنعم الله عليهم».

يمانيون في المنفى...
اليوم صار اليمني ضيف ثقيل غير مرحب به، ينتقل من «منفى إلى منفى» بحسب توصيف عبد الله البردوني شاعر اليمن المغمور الذي لخص جل المشكلة ببيت شعري شهير «يمانيون في المنفى.. ومنفيون في اليمنِ..» إلى أن قال «بلادي في ديار الغير.. أو في دارها لهفى، وحتى في أراضيها.. تقاسي غربة المنفى، وعن و عد ربيعي�'.. وراء عيونها أغفى».." اليمانيين مكتوب عليهم أن يهاجروا.. فبلادهم ليست لهم هذه حقيقة تاريخية.. إن لعنة «ذويزن» تطاردهم وستظل تطاردهم.. لأنهم غزاة غيرهم، بناة بلاد أخرى، هذه الجبال اللعينة عليها أن تسحق أن تذوب لأنها لا تحمي إلا من يماثلها في الكآبة والفراغ، جرداء هي وجبالها وجرداء هي عقولها وعواطفنا.. ماذا نستطيع أن نعمل؟؟ طاحونة هائلة تبتلع وتبتلع لا أمل سوى أن تذهب بعيداً، لعلها هناك نستطيع أن تعمل.."

نداء البعيد
لم تعد تجدي توسلات «ارجع لحولك..» ولا أماني «..وعد اللقاء حان، اليمن تنتظركم ياحبايب بالأحضان».. فقد حل محلهما «باعدوا من طريقنا» و«مهلنيش بين الهناء والأفراح».. ويحسب ل«أيوب طارش ومحمد عبد الولي» براعة حفر أوجاع الاغتراب في تراثنا الفني والأدبي، وتطبيب ذات الجرح النازف بالكثير من الإبداع.. وإن كان الأول غني عن التعريف فإن الأخير ذو السيرة الموجعة معني بالتعريف خاصة وان نشر هذا الملف يأتي تزامناً مع ذكرى رحيله الغامض منذ أربعين عاماً.

وقنابل أيضاً
- الشاب بسام .. غادر مسقط رأسه، بيد أن القدر لم يُمهله.. لتغادر روحه المُجهدة الحياة برمتها في منتصف ذات الشهر، هناك خلف الحدود.. «أيام وليال» معدودة تفاصيلها ما تزال غائبة.. قد تكون صورة مُكررة لما سبق ذكره.. وقد تكون أشد قسوة.. ربما طُمست وقائعها بمجرد «الرحيل» أو «الترحيل»..
مغامرات ومذلات لا تحصى.. عاشها الهاربون.. لو علم بها صانعو الأفلام في «هوليود» لجسدوها عبر أفلام تحصد مليارات.. لكنها ظلت حبيسة من عايشها يتعب كثيراً من يبحث عنها..

خوف..ضياع..موووت!!
تحكي تقارير «سرية ومعلنة» عن متسللين قضوا نحبهم إما عطشاً أو غرقاً أو بلدغات الثعابين والعقارب، أو «قنيص» حرس الحدود.. بمجرد ولوجهم تلك الأراضي الساخنة خاصة في «خبت البقر» و«صحارى نجران»، وهؤلاء حسب تأكيدات أمنية هم أكثر الضحايا.. والأسوأ أن تبقى جثثهم رهن الاحتجاز لفترات طويلة قد تمتد لسنوات بسبب عدم التعرف على هوياتهم، أو عدم مقدرة ذويهم على استلامها إما لعجزهم المالي، أو بسبب تعقيدات الإجراءات.
- طريق العبور إلى المجهول أو العودة منه.. ليست سهلة كما يتصورها البعض بل هي حافلة بمخاطر عديدة قد تؤدي إلى الوفاة، ففي مستشفى بجيزان هناك جثتان ليمنيين بعضها مجهولة الهوية، توفيت بسبب لدغ الثعابين.. وقبل فترة ليست بالبعيدة عثرت الدوريات على جثتين ليمنيين متسللين في منطقة «خبت البقر» توفيا بسبب الجوع والعطش..
- كانوا ستة أميين أجبرتهم الحاجة وضيق حال اليد لاجتياز الحدود واثقين من حصانة العادات والتقاليد واللغة والدين والتاريخ المشترك، خرجوا من أرياف تهامة.. ومن حرض قطعوا الفيافي والقفار القاحلة مشياً على الأقدام، ووصل بهم الأمر أن يأكلوا من أوراق الشجر اليابسة، أكثر من خمسة أيام قضوها خارج نطاق التغطية، وبسبب قيض الصحراء ومطاردة حرس الحدود وشدة الجوع والعطش دنت ساعة الاحتضار على أحدهم، فما استطاعوا أن يسعفوه وما وجدوا له حلا، فتركوه يستقبل مصيره المحتوم وهم له ناظرون.. دفنوه بملابسه بلا غسل ولا صلاة.
- مجموعة أخرى وأخيرة كما ورد في مأرب برس كانوا يسابقون الزمن من أجل الوصول إلى مبتغاهم.. نفد الماء من أوعيتهم مع منتصف إحدى الليال.. أنهكم العطش، عزموا على المسير حتى لا يموتوا.. تاهوا وكانت النتيجة وفاة أحدهم يدعى «علي صغير» بمجرد وصولهم «خبت المضيليف» مع صباح اليوم التالي.. ولولا مجموعة من البدو الرحل وجدوهم لكان مصير الجميع «الموت عطشاً».. وقد شهد ذات الخبت وفاة شخص يدعى «حسن عقاري» من البيضاء وبنفس الأسباب.. إلا أن هذا الأخير ضلت جثته في مستشفى «الباحة» سنة كاملة دون أن يعلم به أحد.. وعندما عرفت عائلته بالخبر دفنوه هناك.

خصم وحكم
مواطن وعلى ذمة ذات الموقع السابق يدعى عبد الله محمد يوسفي هو الآخر شاب عشريني لم يكد يلج أراضي الأشقاء حتى فاجأه حرس الحدود في الجانب الآخر بطلق ناري اخترق أعلى الرقبة وأدى إلى تهشم عظمة الفك.. كان وأخيه الذي احتار في وجهة إسعافه خاصة وأن النزيف حاد ولا يستدعي التأخير، وعلى ضوء ذلك أختار الجانب الأقرب «الخصم والحكم!!»..وفي مستشفى «بحرة بجيزان» أدخلوه العناية وأخرجوا الرصاصة.. وتركوه مغماً عليه بلا مرافق بعد أن «زفروا» أخيه، وصادروا كل أوراق إثبات شخصيته.. بقي في المستشفى لمدة شهر أسير آلام وقيود ثقيلة أنهكت قدميه.
- في سجن «الطوال» قضى فترة نقاهة لمدة «12» يوماً، فيما آلامه الحسية والمعنوية لم تنتهي بعد، «رحلوه» بعد أن أجبروه على التنازل بعد تهديده بتلبيسه قضية تهريب.. ليشعر بعد أيام من وصوله مدينة الحديدة بألآم فضيعة وانتفاخات شنيعة كست محياه.. أجبرته أسرته المعدمة على الذهاب إلى المستشفى، وهناك تلقى النبأ الفاجعة، فكه مكسور ويحتاج إلى عملية جراحية عاجلة ستكلفه الكثير، كان من المفروض إجراؤها «هناك».. خرجوا بحثاً عن لقمة عيش كريم.. وعن بصيص حياة.. فكان الموت «مجهول الهوية..» بانتظارهم «هناك».. و«هنا» زوجات وأطفال.. ينوحون عليهم ك «الثكالى»..
واخيرا يوي احدهم كشاهد عيان انها خرجت قاطرة شحن عن مسار خط سيرها العريض جنوب المملكة.. كانت مليئة بأجساد يمنية كالحة معدة ك «القطيع» للتصدير.. اختلطت الأجساد في عناق أبدي رهيب، وغاصت في بحر من دم متعدد الفصائل، تدخلت حكومتنا الرشيدة حينها لإنقاذ الأشقاء عملاً بحقوق الجار الذي تفرضه التقاليد العربية الرفيعة، وتم الاتفاق على أن تدفع العربية السعودية دية.. ب «شرط» إلى السلطات اليمنية؛ وهذه الأخيرة ك «مستودع أمين» ستوصلها إلى اسر المتوفين، بعد خصم عمولتها التي كانت «90%» فيما كانت ال «10%» من نصيب أسر الضحايا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.