قطّب "أبوجهل" حاجيبه في إجتماع "سادة" قريش بدار الندوة ، وأشار بيده إلى "أمية بن خلف" ، ماذا تقول في شأن "المرتزقة" الذين هربوا إلى الحبشة ، واستعانوا بالنجاشي وأرادوا منع تجارتنا وهُم يسبون آلهتنا ؟ - حك "أمية" رأسه وقال : لا عليك منهم يا أبا الحكم ، إنهم "خونة" ! ، وسوف يُهزمون ، وقد سمعت أن محمداً هرب أيضاً إلى "يثرب" مع نفر من أصحابه ، ويحاولون حشد أنصارهم هناك ، للهجوم على "مكة" ! - قهقه أبو جهل عالياً ، وقال لأمية : كم أنت غبي يا أمية ، قل لهم "الحبشة أقرب ، أما مكة فبعيدة عنهم" ! ، وقهقه الجميع ساخرين . - تدخل "أبولهب" في هذه اللحظة وكان يجلس على أريكة من الحرير ويتناول عنقوداً من العنب الرازقي ، وقال : دائماً ما يخيفنا أمية بن خلف من هؤلاء المرتزقة الذين تركوا وطنهم ، وهربوا ، ولو أنهم رجال لقاتلونا ، لكنهم جبناء ، لا يستطيعون مقاتلتنا فنحن أكثر عدداً وعُدة ، ثم اردف قائلاً ، وهو يشير إلى أمية : أنت تخشى بلال بن رباح ، وتتمنى لو أنك لم تطلق سراحه ، فقد حذرناك من ذلك، إلا أنها الأموال أعمتك أيها الجشع . - لوح أمية بيديه في الهواء مبدياً إنزعاجه وقال في إستنكار: أنا جشع يا أبا لهب ، أم أنت أيها العجوز المأفون الذي تكتنز الذهب والفضة ، وقد سمعت ما قاله محمدٌ عنك "ما أغنى عنه ماله وماكسب ، سيصلى ناراً ذات لهب" ! ، ثم انفجر ضاحكاً . - إمتقع وجه أبولهب ، وصاح في أمية : أنت تلعب بأعصابي أيها الماجن السكّير وما أنا إلا واحدٌ منكم ، وهو إبن أخي فعاديته لأجلكم ، ولست مثلك تنهب قرية "بني حشيش" وتأكل من عنبها ، وخيرها وتستعبد عيالها ورجالها ، وتذهب بهم إلى القتال على محمد ولا يعودون !. - حاول أبو جهل حسم الخلاف ، قائلاً : إن محمداً يسعى إلى تكوين نظام جديد قائم على العدالة والمساواة ، وإلغاء إمتيازاتنا ك"سادة" في قريش ، وقد شوّه بنا في الأمم الأخرى وعند حُلفائنا من الحبشة والروم وبقية قبائل العرب ! ،وأنتما هنا تختلفان على بني حشيش ! - أجاب رجل يكتم إيمانه : لقد هدمنا بيوتهم ولاحقناهم وقتلناهم وعذبناهم هنا ، ولم نسمح لهم بشيء ، فكيف تريدونهم ألا يهربوا إلى مُدن أخرى ويتحدون مع قبائل العرب لمواجهتنا . - أحمر وجه أبو لهب ، وصاح في الرجل : إنهم يريدون مساواتنا بعبيدنا ، فاللات والعزة لنحرقنهم أجمعين ،بنار ذات لهب !. - إمتقع وجه الرجل الذي يكتم إيمانه وقال : لكنهم يحشدون في فرضة نهم على حدود قريش ، ويجب أن نعيد التفكير في ظلمنا لهم ، فلولا ما فعلناه بهم من تنكيل وتعذيب ، وحرمناهم حق الكلام ، وإعتقلنا واختطفنا منهم بالالاف لما تجمعوا علينا ، أليس فيكم رجل رشيد ! - دخل أبو سفيان في تلك الأثناء إلى دار الندوة ، وقال : مهلاً مهلاً يا قريش ما بال أصواتكم وصلت إلى خارج الدار ، أما زلتم تتحدثون عن المرتزقة ؟ - قال أمية : نعم يا أبا سفيان فقد أرادوا غزونا وأعلنوا تحالفهم مع يثرب وقبائل العرب ، وملك الحبشة يقال أنه آواهم ورفض تسليمهم ، وأنهم يتدربون في مملكته على أحدث الأسلحة ، تمهيداً لإقتحام مكة ! - ضحك أبو سفيان وقال : مكة ماذا ومن يا أمية ، مكة محصنة برجالها ، إنها على "مسيرة" اللات والعزة وهُبل هؤلاء هم آلهتنا التي ستظل تحرسنا إلى الأبد ، فلا يخيفك المرتزقة والخونة الذين باعوا وطنهم بدنانير الحبشة . - وقف أبو جهل على قدميه ، وتحرك إلى نافذة مُطلة على ساحة مكة ، وقال بلهجة الواثق : يا أمية قد قلت لك : قل لهم أن مكة بعيدة ، أبعد عليهم من عين الشمس ،وأن الحبشة أقرب لهم . - قال الرجل الذي يكتم إيمانه : لقد تسللت في الظلام ، وذهبت بالأمس إلى حدود بني حشيش فسمعت مدافع المسلمين تقصف بشدة ، وقد قيل لي أن حمزة بن عبدالمطلب زار المكان وبجواره عمر بن الخطاب وأبو بكر وعلي ، وأنهم يتقدمون بثقة ، ويتوسعون وأن جنودنا يتقهقرون ويقتلون بالالاف . - قال أبو جهل : ما بالك ياهذا ترتعد فرائصك ! ، ثم إلتفت إلى أبو سفيان وقال له بلهجة حازمة : عليك أن تنهض باكراً لتذهب بتجارتنا إلى الشام ، فإذا إعترضك محمد فسنخرج كلنا لملاقاته ، وأردف وهو يلوح بأصبعه في الهواء : عليكم أن تنشروا الشائعات ، قولوا لشبابنا أننا قد بلغنا حدود العراق ، وأننا قد سيطرنا على بيزنطا ، وبلاد الأندلس ، لا تيأسوا يا "سادة" قريش ! - تنحنح عتبة بن ربيعة ، موجهاً كلامه إلى الجميع : هل تسمعون رأيي ؟ ، أنا اعتقد أننا صرنا في موقف الذي يُدافع عن نفسه بعد أن كُنا نغزو كل القبائل ونُلاحق المسلمين ، والآن نتحصن في مكة ، بينما مُحمداً وأصحابه يسيطرون على كل المناطق ويكسبون ولائهم بسرعة ، وأخشى على شبابنا من موالاة محمد ، وشريعته السماوية التي ينادي بها ، فنهزم !. - قال أميه وقد بدأ يثمل : واللات والعزة ، لأجهزن لهم غداً مائة ناقة تحمل دنان الخمر ، وقام من مقعده شاهراً سيفه وصاح "إنها الحرب" ، الحرب يا قريش ، ثم سقط على الأرض من شدة السُكر ، وكان "عبدالله بن أُبي" في ركن ناء يراقب الموقف صامتاً وقد أصابه إحباط كبير ، وتمتم وهو يحدث نفسه : ليتني "تحالفت" مع قوم آخرين ، أو صدقت مُحمداً وإتبعت دينه ، فقد إقترب الرجل وأصحابه ، ولابد من مكة وإن طال السفر !.