استطاع الرئيس صالح حسم المعركة حين استقطب إلى جانبه كثيراً من القوى السياسية والعسكرية والمكونات الاجتماعية الجنوبية التي كانت متضررة من صراعات الفترة الماضية، وأهم تلك القوى كان فريق الرئيس الجنوبي السابق/ علي ناصر محمد على الرغم من كل الاتفاقات والجهود السياسية المدعومة من دول عربية وأجنبية لإنهاء الأزمة السياسية في اليمن، إلا أن أصوات الحرب في 1994م كانت أقوى من كل جهود السلام ظلت القوى اليمنية ترفض واقع التجزئة والتشطير الذي فرضه الاستعمار البريطاني ليضمن سيطرته على الجزء المحتل في الجنوب، ووافق عليه نظام الإمامة عجزاً وضعفاً وحرصاً على السلطة حتى لو كانت منقوصة..كان الموقف من وحدة اليمن معيار وطنية ونزاهة بحيث تلاشت واضمحلت كل قوة سياسية تظهر على الساحة شمالاً وجنوباً لم تتبنى الوحدة أو وقفت ضدها نستعرض هنا الحلقة التاسعة من هذه الدراسة والتي بعنوان : أزمة الوحدة وعودة الصراع لم تكد الفترة الانتقالية المتفق عليها والمحددة بعامين ونصف تنتهي، حتى بدأت الخلافات تدب بين طرفي اتفاق الوحدة، وأخذا يتبادلان الاتهامات في تنفيذ بنود الاتفاق التي تلكأ الطرفان كثيرا في تطبيقها خلال الفترة الزمنية المحددة، ولم تندمج المؤسستان السياسيتان للدولتين السابقتين، على الرغم أنه تم تشكيل البنى اللازمة لنظام حكم اندماجي، الدستور والبرلمان والانتخابات والمؤسسات البيروقراطية، وفتح المجال لحرية التعبير السياسي فتأسست الأحزاب والاتحادات وعقدت المؤتمرات وازدهرت الصحافة، وبدا أن كلا من مركزي النفوذ السلطويين يفتقر إلى حسن النية والثقة بالآخر، ولذلك تفاقمت الخلافات بن الطرفين بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أبريل/نيسان 1993 ،ذلك أنها أفرزت واقعاً جديداً بعد دخول حزب التجمع اليمني للإصلاح في التشكيل الحكومي إلى جانب الحزبان الحاكمان (المؤتمر والاشتراكي) بعد ما حصل على (63) مقعد، بينما حصل المؤتمر الشعبي على (122) مقعد من أصل (301)، وتولى المواقع التالية: رئيس مجلس الرئاسة، عضو مجلس الرئاسة، نائب أول لرئيس مجلس الوزراء، ونائب رئيس مجلس النواب، بالإضافة إلى 14حقيبة وزارية، وحصل الاشتراكي على (56 مقعد)، وصار من نصيبه: نائب وعضو في مجلس الرئاسة، إضافة إلى رئيس الوزراء ونائب له ونائب آخر لرئيس البرلمان، و7 حقائب وزارية، أما الإصلاح فكان من نصيبه عضو في مجلس الرئاسة، ورئيس مجلس النواب ونائب لرئيس الوزراء و5حقائب وزارية، ورأى بعض المراقبين في «تشكيل الائتلاف الثلاثي الحاكم انتكاسة للتجربة الديمقراطية، حيث انتقل الأقوياء معاً إلى الحكومة والرئاسة. ولم تعدم الأطراف السياسية المبررات في تبني كل طرف ما يؤيد وجهة نظره ورؤيته، ما صعد في الخطابات الإعلامية بين الإشتراكي والمؤتمر بينما ظل الإصلاح يمسك العصا من الوسط في بداية الأزمة، ويتطلع لإنجاز ما أخفق فيه خلال الفترة الانتقالية، وهو إجراء التعديلات الدستورية التي من أجلها قاد أولى معاركه السياسية والجماهيرية بعد إعلان الوحدة والتعددية السياسية وما عرف حينها ب(معركة الدستور)، حين نظم المسيرات الشعبية في صنعاء وغريها معلنا رفض المادة الثالثة التي كانت تنص عل أن «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع»، ساعياً لجعل الشريعة المصدر الوحيد وليس الرئيسي، بيد أن تصاعد الأزمة أجل كل ذلك، لتأتي رحلة البيض الطويلة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية )يونيو/حزيران- أغسطس/آب 1993 ،) وعودته المفاجئة إلى عدن، عبر باريس- عدن، وقالت الرئاسة حينها إن ذلك تم دون علمها أو التنسيق معها. وكانت أحزاب الائتلاف الثلاثي الحاكم قد اتفقت- أثناء غياب البيض في الولاياتالمتحدة- على صيغة للتعديات الدستورية بما فيها تعديات مقدمة من الحزب الإشتراكي، وقعها الرجل الثاني في الحزب، سالم صالح محمد الأمين العام المساعد للحزب الإشتراكي، وهو ما أثار غضب البيض ليعلن رفضه كل ما تم الاتفاق عليه، معلناً أن الحزب الإشتراكي له 18 مطلب يجب تنفيذها لكي يعود إلى صنعاء وتنتهي الأزمة. تضمنت المطالبة بالإصلاح المالي والإداري، ودمج القوات المسلحة، ومحاكمة مرتكبي أعمال العنف والاغتيالات السياسية، والتقيد بالموازنة العامة للدولة وعدم تجاوزها أو الخروج عليها، وإخضاع البنك المركزي ووزارة المالية لقرارات مجلس الوزراء وحده، وعدم التدخل في هيئات ومؤسسات الدولة، وتصحيح أوضاع النيابة العامة والقضاء وضمان استقلالهما، وإنشاء مجلس استشاري يتولى الإشراف على القضاء والإعلام والخدمة المدنية، وإجراء تغير إداري وإنشاء حكم محلي بصلاحيات مالية وإدارية، وعى الرغم أن المطالب تهدف- من وجهة نظر مراقبين- إلى «تجريد صالح من معظم أدواته، وكف يده عن الصرف من الموازنة العامة، التي يصل الصرف منها في بعض السنوات إلى الثلث» إلا أنه أعلن الموافقة عليها وبدأ كل من المؤتمر والإشتراكي يضع شروط ومطالب جديدة أخرى، بعدما حظيت المطالب ال18 بقبول والتفاف شعبي، وفي أكتوبر/تشرين 1993 شكل مجلس النواب لجنة برلمانية لمواجهة الأزمة، وبعد لقائها بالبيض في عدن عاد الشيخ عبدالله الأحمر رئيس مجلس النواب، ليعلن أمام البرلمان أن التعديلات الدستورية وصلت إلى طريق مسدود، وأن الدخول في انتخابات رئاسية بات حتمياً. وقادت الأزمة السياسية إلى سلسلة لقاءات واتفاقيات شملت الأحزاب والقوى السياسية اليمنية كلها، وتمخض عنها تشكيل لجنة حوار القوى السياسية، «بهدف نزع فتيل الأزمة وتجنيب البلاد تبعاتها، وبعد لقاءات عدة عقدتها اللجنة في صنعاءوعدن، أنجزت وثيقة لحل الأزمة ومعالجة أسبابها»عرفت ب «وثيقة العهد والاتفاق»، وتم التوقيع عليها من قبل الأطراف السياسية اليمنية في حفل أقيم بالعاصمة الأردنية عمان، في فبراير/شباط 1994 ،برعاية العاهل الأردني الملك الحسين بن طلال، وبحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية على الرغم من كل ما فعلته القوى السياسية وبدعم من دول عربية وأجنبية لإنهاء الأزمة السياسية في اليمن، إلا أن أصوات الحرب كانت أقوى من كل جهود السلام، وبدا حينها أن كل طرف من طرفي اتفاق الوحدة، كان يعد نفسه للمواجهة الحاسمة من خلال استعداد الألوية والوحدات العسكرية، وكان الطرفان يعدان استراتيجية تراجع وخطط للطوارئ تحسباً لنزاع محتمل، وسعى كل طرف إلى تعزيز قدراته العسكرية، بعدما أسهم كل منها في إعاقة توحيد القوات المسلحة، وسعى كل طرف لتأمين دعم خارجي له، وبدا أن «كلا الطرفين كانت له مصلحة ضمنية في إعاقة تطوير القوى السياسية المستقلة، ويف إفساد محاولات المجتمع المدني الناشئ الرامية إلى الدخول في السياسة بطريقة جدية. ويستنتج مايكل هدسون أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جورج تاون أن بروز لاعب جديد، التجمع اليمني للإصلاح، هو الذي عجل في إشعال فتيل النزاع بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الإشتراكي اليمني ، واندلعت الحرب الشاملة بداية شهر مايو/ايار 1994 ،بين جيشي الدولتين السابقتين، واستطاع الرئيس صالح أن يستقطب إلى جانبه كثيراً من القوى السياسية والعسكرية والمكونات الاجتماعية الجنوبية التي كانت متضررة من صراعات الفترة الماضية، وأهم تلك القوى كان فريق الرئيس الجنوبي السابق/ علي ناصر محمد الذي خسر آخر جولة من جولات الصراع المسلح في الجنوب قبل الوحدة، واستوعبهم صالح ضمن مؤسسة الجيش والأمن، خاصة أن البيض أبدى موقفا متشدداً إزاءهم، واشترط للتوقيع على اتفاقية الوحدة في العام 1990 ،مغادرتهم اليمن وقد أثارت تلك الاشتراطات أنصار علي ناصر ضد البيض والحزب بشكل عام، وباستثناء ناصر الذي غادر البلاد، ومحمد عي أحمد الذي تصالح مع البيض لاحقاً فقد كان موقفهم مساندا لصالح في الحرب، وكان أغلبهم قادة محاور وجبهات ووحدات عسكرية، وأبرز حلفاء صالح الجدد القائد العسكري عبدربه منصور هادي ، الذي نجح أثناء الأزمة السياسية، ومعه عدد من القادة العسكريين في استمالة قيادات جنوبية موالية للحزب الاشتراكي إلى صف الرئيس صالح، وبعضهم كانوا قادة كتائب ووحدات عسكرية موجودة في صنعاء وذمار وإب وأبين، ما جعل الأخيرة تبدو قبل الحرب خارجة عن سيطرة الحزب الاشتراكي، بعد انحياز أغلب قياداتها السياسية والاجتماعية إلى صف صالح، وبالإضافة إلى ذلك تمكن صالح من التأثر في المواقف الدولية فكانت في الغالب مؤازرة له. بعدما قدم نفسه ممثلاً عن الشرعية الدستورية لدولة الوحدة التي صارت الشخصية الدولية المعرف بها منذ إعلانها في العام 1990 ،وزاد إعلان النائب البيض انفصال الجنوب بعد نحو عشرين يوما من اندلاع الحرب في تأكيد اتهامات خصومه، خاصة أن الإعلان جاء في الوقت الذي كان صالح قد أعلن الموافقة على وقف إطلاق النار، استجابة لدعوة تقدم بها الملك السعودي فهد بن عبدالعزيز، ما جعل صالح يستأنف القتال لأنه وجد مبرراً قوياً على عدم جدوى وقف إطلاق النار160 ،وفي غضون شهرين انتهت الحرب بانتصار صالح وحلفائه. وترتب على الحرب تغير قواعد التحالف السياسي، اذ أبعد جناح البيض الذي خرج من المشهد مهزوماً، واعتمد صالح حلفاءه في الحرب من الجنوبين الذين دعموه، وأغلبهم من السياسيين والعسكريين الذين أجبرتهم دورات الصراع الدموي على مغادرة الجنوب إلى صنعاء، والبقاء فيها حتى تحققت الوحدة اليمنية.