روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : الشعر وقت الموت قال أبو عثمان الجاحظ : وليس في الأرض أعجبُ من طرفةَ بنِ العبد وعبد يغوث، وذلك أنَّا إذا قسنا جودةَ أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمْن والرّفاهيَة . فتعالوا لنشاهد قصة عبد يغوث وجودة شعره الذي نوه به الجاحظ : فقد كان عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة شاعراً من شعراء الجاهلية، فارساً سيداً لقومه من بني الحارث بن كعب، وهو كان قائدهم في يوم الكلاب الثاني، إلى بني تميم،. وكان من حديث هذا اليوم، فيما ذكر أنه لما أوقع كسرى ببني تميم يوم الصفا بالمشقر، فقتل المقاتلة، وبقيت الأموال والذراري، بلغ ذلك مذحجاً، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، فاجتمع ثمانية آلاف ، وكان رئيس مذحج عبد يغوث ، ورئيس همدان يقال له مسرح، ورئيس كندة البراء بن قيس بن الحارث. فأقبلوا إلى تميم أقلوا الخلاف على أمرائكم فبلغ ذلك سعداً والرباب،- من بني تميم - فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفي، وهو قاضي العرب يومئذٍ، فاستشاروه، فقال لهم: أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة. يا قوم تثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تهب ريثا. واتزروا للحرب، وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف عليه. فلما انصرفوا من عند أكثم تهيئوا، واستعدوا للحرب، وأقبل أهل اليمن،، حتى إذا كانوا بتيمن نزلوا قريباً من الكلاب – اسم ماء بين الكوفة والبصرة – فرآهم رجل كان يرعى الأبل فسار حتى أتى سعداً والرباب وهم على الكلاب، فأنذرهم، ، وأغار أهل اليمن على النعم فطردوها، وجعل رجل من أهل اليمن، يرتجز ويقول : في كل عام نعمٌ ننتابه ... على الكلاب غيب أربابه فأجابه غلام من بني سعد كان في النعم، على فرس له، فقال: عما قليل سترى أربابه ... صلب القناة حازماً شبابه على جيادٍ ضمر عيابه رب حنظلية قد غاظتني فأقبلت سعد والرباب، ورئيس الرباب النعمان بن جساس، ورئيس بني سعد قيس بن عاصم المنقري. ولما اقترب جمعهما قال ضمرة بن لبيد الحماسي: أنظروا إذا سقتم النعم، فإن أتتكم الخيل عصبا عصبا، وثبتت الأولى للأخرى، حتى تلحق، فإن أمر القوم هين. وإن لحق بكم القوم، فلم ينظروا إليكم حتى يردوا وجوه النعم، ولا ينتظر بعضهم بعضاً، فإن أمر القوم شديد. وتقدمت سعدٌ والرباب، فالتقوا في أوائل الناس، فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النعم من قبل وجوهها، فجعلوا يصرفونها بأرماحهم، واختلط القوم، فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم، حتى إذا كان من آخر النهار قتل النعمان بن جساس، قتله رجل من أهل اليمن، كانت أمه من بني حنظلة، يقال له عبد الله بن كعب وهو الذي رماه، فقال للنعمان حين رماه: خذها وأنا ابن الحنظلية. فقال النعمان: ثكلتك أمك، رب حنظلية قد غاظتني. فذهبت مثلاً كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانياً وظن أهل اليمن أن بني تميم سيهدهم قتل النعمان، فلم يزدهم ذلك إلا جراءة عليهم، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، فباتوا يحرس بعضهم بعضاً، فلما أصبحوا غدوا على القتال، وتولى قيس بن عاصم إمرة بني تميم كاملة وحملوا على أهل اليمن فانهزم وعلة بن عبد الله الجرمي وكان صاحب اللواء يومئذٍ، وكان أول من انهزم من اليمن، - تتكرر في التاريخ هذه الحكاية !! يفر جبان فيتسبب فراره بفرار البقية وبالتالي الهزيمة - وحملت عليهم بنو سعد والرباب، فهزموهم أفظع هزيمة، وجعل قيس بن عاصم ينادي: يآل تميم: لا تقتلوا إلا فارساً، فإن الرجالة لكم. وجعل يرتجز ويقول: لما تولوا عصبا شوازبا ... أقسمت لا أطعن إلا راكبا إني وجدت الطعن فيهم صائبا فما زالوا في آثارهم يقتلون ويأسرون، حتى أسر عبد يغوث، أسره فتى من بني عمير بن عبد شمس – عند فرار الجيوش يقع الابطال في الاسر - وانطلق به العبشمي إلى أهله، وكان العبشمي أهوج، فقالت له أمه ورأت عبد يغوث عظيماً جميلاً جسيماً: من أنت؟ قال: أنا سيد القوم. فضحكت، وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج. فقال عبد يغوث : وتضحك مني شيخةٌ عبشمية ... كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانياً ثم قال لها: أيتها الحرة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: أعطي ابنك مئة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم، فإني أتخوف أن تنتزعني سعد والرباب منه، فضمن لها مئة من الإبل، وأرسل إلى بني الحارث، فوجهوا بها إليه، فقبضها العبشمي، فانطلق به إلى الأهتم حضرموتَ اليمانيا فمشت سعد والرباب فيه. فقالت الرباب: يا بني سعد، قتل فارسنا – النعمان بن جساس الذي قتل في اول المعركة على يد ابن الحنظلية - ولم يقتل لكم فارس مذكور، فدفعه الأهتم إليهم، فأخذه عصمة بن أبير التيمي، فانطلق به إلى منزله، فقال عبد يغوث: يا بني تيم، اقتلوني قتلة كريمة. فقال له عصمة: وما تلك القتلة ؟ قال: اسقوني الخمر، ودعوني أنح على نفسي، فقال له عصمة: نعم. فسقاه الخمر، ثم قطع له عرقاً يقال له الأكحل، وتركه ينزف، ومضى عنه عصمة، وتركه مع ابنين له، فقالا: جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا، فكيف رأيت الله صنع بك؟ فقال عبد يغوث في ذلك : ألا لا تلوماني كفى اللَّومُ ما بيا ... فما لكما في اللَّومِ خيرٌ ولا ليا ألمْ تعلما أنَّ الملامةَ نفعها ... قليلٌ وما لومي أخي من شماليا فيا راكباً إمَّا عرضتَ فبلِّغنْ ... ندامايَ من نجرانَ ألاَّ تلاقيا أبا كربٍ والأيهمينِ كليهما ... وقيساً بأعلى حضرموتَ اليمانيا (1) جزى الله قومي بالكلابِ ملامةً ... صريحهمُ والآخرينَ المواليا ولو شئتُ نجَّتني من الخيلِ نهدةٌ ... ترى خلفها الحوَّ العتاقِ تواليا ولكنَّني أحمي ذمارَ أبيكمُ ... وكانَ الرِّماحُ يختطفنَ المحاميا أقولُ وقد شدُّوا لساني بنسعةٍ ... أمعشرَ تيمٍ أطلقوا عن لسانيا أمعشرَ تيمٍ قد ملكتمُ فأسجحوا ... فإنَّ أخاكمْ لم يكنْ من بوائيا أحقاً عبادَ الله أن لستُ سامعاً ... نشيدَ الرِّعاءِ المعزبينَ المتاليا وتضحكُ منِّي شيخةٌ عبشميَّةٌ ... كأنْ لم تري قبلي أسيراً يمانيا وقد علمتْ عرسي مليكةُ أنَّني ... أنا اللَّيثُ معدوّاً عليهِ وعاديا وقد كنتُ نحَّارَ الجزورِ ومُعملَ ال ... مطيِّ وأمضي حيثُ لا حيَّ ماضيا وأنحرُ للشَّربِ الكرامِ مطيَّتي ... وأصدعُ بينَ القينتينِ ردائيا وكنتُ إذا ما الخيلُ شمَّصها القنا ... لبيقاً بتصريفِ القناةِ بنانيا وعاديةٍ سومَ الجرادِ وزعتها ... بكرِّي وقد أنحوْ إليَّ العواليا كأنِّي لم أركبْ جواداً ولم أقلْ ... لخيليَ كرِّي نفِّسي عن رجاليا ولم أسبأِ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقلْ ... لأيسارِ صدقٍ أعظموا ضوءَ ناريا وكان سألهم أن يُطلِقوا لسانَه لينوحَ على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومَه هذا الشِّعر قال قَيس بن معدي كرب : لبّيك وإن كنت أخَّرتَني . ورفض بنو تميم الفدية التي قدمها قوم عبد يغوث ونزف حتى الموت . وتنتهي قصة عبد يغوث هنا وبقي أن نذكر بأنه قد قيل فيه وفي ما جرى قصائد كثيرة وكذلك سنروي قصة الآخر طرفة بن العبد في عدد قادم إن شاء الله تعالى . الهامش (1)أبو كرب بشر بن علقمة بن الحارث، والأيهمان الأسود بن علقمة بن الحارث، والعاقب وهو عبد المسيح بن الأبيض، وقيس بن معدي كرب .