يبدو أن العقلية العربية مدمنة في «إجترار الماضي» وتلك إحدى مآزق الفكر السياسي العربي-في كل زمان ومكان-والذي يعكس نفسه على بوادر الحوار، ونوايا البحث عن مخارج للأزمات المزمنة.. وكلما وقفت على المخاضات العسيرة التي مرت، وتمر، بها هذه الأمة، أجسد نفسي مشدوداً إلى مقولة لأحد الساسة الأوروبيين لتفسير الفارق بين المنهجية الأوروبية في التحاور، والذي ينتهي دائماً إلى تقارب وتجاوز نقاط الخلاف وتحديد أولويات، والسير في طريق التكامل خطوة خطوة، مهما كانت بعض الخطوات وئيدة، محدودة النتائج، إلا أن إضافة الإتفاق إلى إتفاقات أخرى سابقة، وتحديد جدول زمني مرحلي لمناقشة القضايا المعلقة، أنجز مانشهده الآن من وحدة أوروبية لها شخصية إعتبارية دولية، ونظام نقدي وإقتصادي وسوق مشتركة، وتنسيق شامل في كافة المجالات-رغم مابين الدول الأوروبية من تناقضات-ثقافية، أثنية، لغوية، ديموغرافية... إلخ-بل وصراعات دموية تاريخية.. يكفي أن أعظم حربين كونيتين في التاريخ دارت على أرض أوربية وبين أنظمة متناقضة-خلقت مآسي ماتزال، وستظل شواهدها الكارثية ماثلة للعيان- ولن تمحى من الذاكرة الإنسانية بكل ماخلفته الحربين العالميتين من كوارث وحشية وفضائع وفضائح مدمرة-لكن أوروبا المعاصرة تجاوزت كل ذلك-لأنها لاتؤجل النقاط الساخنة، والخلافية، وتبحث في النقاط والقضايا المتفق عليها- أو الأقرب إلى الإتفاق» كما قال ذلك السياسي الأوروبي، لتلخيص الإجابة على السؤال الآنف الذكر: لماذا يتفقون، ولماذا نختلف؟؟-وأضيف-هنا-إجهتاداً آخر لشرح السبب الخفي لمرونة العقلية الأوروبية.. وهو: الأثر اللغوي.. ف«اللغة وعاء التفكير وأداة الفكر» والمقارنة بين لغتنا الجميلة-اللغة العربية-ولغة الأوروبيين بأصولها اللاتينية يؤكد: أن للفعل في قواعد اللغة العربية الشائعة صيغتان «ماضي-مضارع» فقط-لأن فعل الأمر وهو الصيغة الثالثة قد يشير إلى الماضي والمضارع-وتحدد سياق الجملة زمانه-بينما «للفعل في الإنجليزية» «ماضي بسيط، ماضي تام، ماضي مستمر، وكذا المضارع ثلاث صيغ... إلخ- وأكاد أجزم بأن «لهذه المرونة في صيغة الفعل أثرها في مرونة التفكير» بحيث يميز الناس بين «ما الذي يؤخذ من الماضي وما الذي يترك-ماهي المادة اللغوية المتينة والقوالب الجامدة في التراث، وماهي المادة الحية، لفعل مستمر.. فلا يغرقون في متاهات الماضي كما نفعل نحن-حيث نقف من الماضي موقفاً متناقضاً-يتنازعه تياران فكريان أحدهما يتعامل مع الماضي وكأنه مقدس، والآخر يعتبره مصدر تخلف-وهكذا نحاكم التاريخ بنفس المنهجية.. بين إنتصار لكل مافيه، أو إنكار لكل موروثاته.. ولتقريب الفكرة.. يكمن ملاحظة هذا التناقض على المستوى السياسي والمذهبي والثقافي فما زال القوم منهمكون في «نقد التاريخ، وصراعاته وأحداث «موقعه الجمل، و«مازال قميص عثمان» شاهد على الكثير من وقائع الأحداث-قديمها وحديثها-فكل يتخذ من ذلك القميص التليد قناعاً للتخندق ضد الآخر، وإثارة الصراعات، وتأجيج الفتن-ولايهم إن كان يصدر ذلك بحسن أو سوء نية- فالعبرة في نتائج الكثير من الحوارات العربية/العربية-الوطنية/الوطنية-الدينية/الدينية-فكلها تحمل مقدمات إيجابية توحي بالرغبات المشتركة للتقارب لتنتهي إلى طريق مسدود-يترجم حقيقة «الإنتصار للأنا» على حساب «نحن» وتلك إشكالية لغوية أخرى-فصيغة «نحن السلطان فلان» تختزل إرادة الكل في فرد بعينه، والمجتمع بالجماعة... إلخ.وفي الساحة اليمنية اليوم نموذج لهذا «الأنا» لفئات وأحزاب تمارس هذا الإختزال الأناني-فتشكك ب«الوحدة-الثورة-الجمهورية-وتخضع التجربة الديمقراطية لمقاييسها الأنانية» والكل يتحدث عن «فتح الملفات، والمراوحة عند الحرب الإنفصالية-والصراعات السياسية المتوالية» ولاندري من المستفيد، أو ماهي الحصيلة، ولا من سيحاكم من- ولا لمصلحة من فك الجراحات..؟؟؟.. ولا أعني هنا: أن الضحايا والتبعات والتداعيات ليست محسوبة على هذا الوطن أو مقدارته، ولطخات سوداء في مسيرته- بقدر ما أعني: أن علينا مقارنة ذلك بالنموذج الأوروبي، وكيف تجاوزوا كوارث حربين كونيتين.. لبناء أوروبا الموحدة الحديثة؟ ولو فعلنا ذلك لأدركنا: أن الحاضر والمستقبل يمثلان «فرس الرهان» وحجر الزاوية، أو «قطع الرحى» لتحريك قطار الحياة-ودواليب الإنتاج، وإنجاز شراكة وطنية-تستفيد من الماضي ولاتتوقف للبكاء على اطلاله.هذه الرسالة موجهة لأولئك النفر الذين يطرحون ماقيل عنه مقترح فتح تحقيق لقضايا الإغتيالات السياسية بما فيها حرب صيف 1994م المعروفة ب«حرب الإنفصال».وسواء كان هذا المقترح مقدم من «البركاني» أو من «جماعة اللقاء المشترك» فهو يقود بإتجاه صناعة وتفجير أزمة سياسية جديدة إلى جانب كونه لايقل خطورة من مؤامرة الإنفصال لأن المقترح ربما يفضي للتشكيك إن لم يكن ببطلان مشروعية الحرب التي قادتها القوات الشرعية ومعها جماهير شعبنا ضد مؤامرة الردة والإنفصال.وبدورنا ننصح الجميع في السلطة والمعارضة بعدم جر الوطن والشعب إلى فتن وأزمات جديدة من خلال فتح ونبش ملفات وأوجاع ومآسي الماضي لأن ذلك لايخدم الوطن ولا الشعب ولا الوحدة ولا الديمقراطية بقدر مايقدمه من خدمة جليلة «مجانية» لأعداء اليمن المتربصين بوحدته ونهجه الديمقراطي.والأفضل لمثل هؤلاء الذين يطرحون مثل هذه المقترحات والمبادرات أن يعتزلوا عن الحياة السياسية ويتركون اليمن وشعبه ووحدته فلهم رب يحميهم الأضواء