كاتب الكفاح..والفرح الأنساني دمشق:خاص-باسمة حامد *دمشق تكرم شيخ الرواية السورية .. يعتبر شيخ الرواية العربية حنا مينة – في أعماله التي بلغت زهاء أربعين رواية- من أبرز الروائيين الذين كتبوا عن الإنسان العربي و كفاحه و حزنه و فرحه و آلامه و خيباته و ثوراته و مقاومته للمحتل..وفي إطار خطة وضعتها وزارة الثقافة السورية لتكريم المبدعين السوريين و العرب ..أقامت مؤخرا ندوة تكريمية ضخمة للروائي الكبير حنا مينة في دمشق بمشاركة نقاد وباحثين وأكاديميين من سورية والوطن العربي.. * رائد الواقعية .. افتتحت الندوة أعمالها بحفل مميز حضره راعي الندوة وزير الثقافة السوري الدكتور رياض نعسان آغا وعددا من السفراء و الدبلوماسيين و الباحثين و الصحفيين و ممثلي وسائل الإعلام.. و خلال كلمته وصف الدكتور رياض نعسان آغا حنا مينا ب"المعلم و الأستاذ" مضيفا:"إنه فخر لنا ولسورية التي أنجبت هذا الفتى الطالع من أعماق التجربة الوجدانية الإنسانية التي خاضها شعبنا مع العناء والفقر فخرج منها منتصراً بالفن والإبداع وبالكلمة الصادقة". و قال: "إنه حنا مينا الذي أعترف أمامه وأمامكم بأنني حين كنت أقرؤه أول مرة كنت أبكي ولم أدر كيف استطاع أن يأخذني معه إلى أوصال ذلك المستنقع لأكتشف في وحل الشقاء كيف كان يبحث عن الجوهرة المخفية فوجدها ووجد أنها الإبداع العظيم". وأشار الوزير السوري إلى أن السمات الرئيسة في حياة حنا مينا التي تشبه ملحمة الحياة الكبيرة أنه "يغني للفرح وهو في لجة الحزن.. يغني للشواطئ وهو في غياهب البحر".. هذه حياة حنا مينا التي حدثنا عنها في رواياته الأولى "فغرس بقايا صوره في أعماقنا ووجداننا فأما الشراع والعاصفة فقد كانتا قطبي صراع مرير مع الحياة"، و أكد الوزير أن مينا نقل تجربته الإنسانية :"بصدق ومكاشفة وشفافية كما لم يكتب أحد من قبل" فقد كتب عن أبيه و "سخر من الحياة.. تباهى بكل المهن التي زاولها ..تحدث عن البحر عن الغابة والكهوف والجبال فأدخلنا إلى أعماق أسرار الإنسان"!! وختم الوزير السوري كلمته بإشارة إلى فعل "التطهير الدائم الذي يعتبر سمة عامة في أدب حنا مينا" باعتباره :" بوابة للخلاص الجماعي لا الفردي"!! بعد ذلك صعد إلى المنصة الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي أشار في كلمته إلى "مكانة حنا مينا الأديبة في سورية و الوطن العربي وبعض من دول العالم حيث ترجمت معظم أعماله إلى اللغات الحية الأساسية" معتبراً حنا مينة "الرائد الأول للواقعية السورية وهو ليس ابن مدينة اللاذقية فقط إنما هو ابن سورية في تاريخها السياسي والحضاري وهو من كبار الأدباء العالميين الذي تحدثوا عن البحر ليس لأنه ابن البحر و إنما لأنه البحر نفسه".. وهو واحد من الذين أسسوا رابطة الكتاب السوريين ثم تأسيس رابطة الكتاب العرب التي كانت النواة الأولى لتأسيس اتحاد الكتاب العرب.. كما ألقى الأديب و الكاتب شوقي بغدادي كلمة أصدقاء المكرم مشيراً إلى "العلاقة الصادقة التي تربطه بالروائي حنا مينة" منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي،و تحدث بغدادي تحدث عن صديقه: "الاستثنائي في حيويته المتأججة باستمرار واهتمامه بحياة من حوله" فقد كان يعبر عن رؤاه :"بأسلوب حماسي يمتزج الجد بالهزل والتعليق الساخن والتصرف بعفوية آسرة وجنوح كبير للكرم والعطاء". و نوه بغدادي في كلمته عن حنا مينا إلى أن هذا الأخير هو :" نموذج إنساني يذكرنا بأبطال الروايات الروسية التي تجمع بين صخب المرح والهدوء التراجيدي العميق".. واختتم حفل الافتتاح بكلمة ألقاها الدكتور محمد صابر عبيد من العراق تحدث فيها عن أهمية هذا التكريم ومشاركة باحثين وكتاب من مختلف الدول العربية لأن سورية دائما: "تفتح قلبها وروحها قبل ذراعيها لتحتضن جميع الكتاب والمبدعين بأمومة آسرة وأبوة أخاذة وكرم بلا حدود"، وأشار في كلمته إلى تجربة حنا مينة "الآسرة وهي تقف في الصف الأول من الرواية العربية الحديثة" و اعتبر عبيد هذه التجربة أنها :"مدونة سردية خلاقة" منتقداً النقاد العرب الذين لم يستطيعوا الغوص بعمق في كشف خباياها داعياً إلى قراءتها :"لنكتشف من خلالها وجودنا حيث نقرأ ونكتب ونتأمل ونحلم، ونعترف بحقيقة حبنا ووحدتنا ومزاجنا العابر للحدود والأزمات والنكبات لنشرق بأناقة وجمال على كنز المعرفة أحراراً إلا من عنائنا المثمر ووجداننا المشحون بالألق"!! ..بالخطأ ولدت..و بالخطأ قد أموت!! لكن حضور الأديب حنا مينة شكل مفاجأة سارة لجمهور الندوة كونه ألقى كلمة مؤثرة رغم متاعبه الصحية عبر فيها عن مشاعره الفياضة بهذا التكريم مرسلاً تحياته وعرفانه بالجميل للرئيس بشار الأسد، لتكريمه الأدباء والمبدعين وذلك بمنحهم "وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة"،معتبراً أن هذا التكريم هو :"تكريم للأدب عموماً وللأديب السوري بشكل خاص" ..و أضاف شيخ الرواية العربية : "أنا لا أملك يداً سحرية تقطف النجوم، حروفي منذورة لدمي الذي نزف في مواقع خطواتي على درب الشقاء الطويل الذي أباركه لأنه صاغني من حصاة إلى فنان" و اختتم مينا كلمته بالقول:" بالخطأ ولدت، بالخطأ نشأت، بالخطأ كتبت، ومن يدري.. بالخطأ قد أموت"!! * ملامح السيرة الإبداعية.. أطلق حنا مينا روايته الأولى "المصابيح الزرق" عام 1954 و عبرها أرسى الأسس الواقعية للرواية السورية،و أثارت هذه الرواية جدلاً واسعا حول عدائه لنظرية الفن للفن وتأكيد التزامه السياسي. ثم تلتها روايات أخرى و منها:"الشراع والعاصفة الثلج يأتي من النافذة الشمس في يوم غائم الياطر وثلاثية بقايا صور المستنقع القطاف".. و بعد هذه المرحلة اتضحت عنايته بالبعد الوطني و النضالي و الاجتماعي و الإنساني في رواياته التي ظهرت خلال الستينات و السبعينات و الثمانينات و منها :"حكاية بحار الدقل المرفأ البعيد مأساة ديمتريو " بالإضافة إلى روايته الأجمل "نهاية رجل شجاع" التي حولت إلى عمل تلفزيوني ضخم لاقى إعجاب المشاهد العربي في منتصف التسعينات من القرن الماضي .. و بلغ أدب المقاومة ذروته في روايته الشهيرة "المرصد" التي كتبها بعد حرب أكتوبر 1973 .. كما حولت بعض أعماله الروائية إلى أفلام سينمائية نالت قدرا كبيرا من الشهرة و منها "الشمس في يوم غائم" و "آه يا بحر" و غيرها.. كما تألق مينا في رواياته :"الربيع والخريف حمامة زرقاء في السحب الولاعة فوق الجبل وتحت الثلج حدث في بيتاخو"..تلك الروايات اعتبرت الأكثر نضجا لدى النقاد باعتبار الكاتب اهتم بناحية الحوار الحضاري مع الغرب الذي برز كقضية ملحة على مستوى العالم ككل خلال العقود الأخيرة.. إلا أن أسلوب حنا مينا في كل رواياته تميز بالقوة و الغزارة و الاستغراق في التخيل و خصوصا في رواياته :"النجوم تحاكم القمر القمر في المحاق عروس الموجة السوداء الرجل الذي يكره نفسه الفم الكرزي حين مات النهد صراع امرأتين"..فضلا عن أنه –أي حنا مينا- قد ركز على كثير من القضايا الفكرية الأخرى فأصدر ثلاثة كتب عن ناظم حكمت مسلطا الضوء عبرها على قضايا السجن والمرأة والحياة إلى جانب الثورة في حياة ناظم حكمت و أدبه و تجلى ذلك الاهتمام في كتابيه:"هواجس حول التجربة الروائية"و "كيف حملت القلم"..وكان له تجربة في التأليف المشترك مع الدكتورة نجاح العطار من خلال كتبهما "من يذكر تلك الأيام" و "أدب الحرب".. * شيخ البحر .. حنا مينا يعتبر الأب الروحي للرواية السورية و من أبرز الروائيين العرب ولد لأسرة فقيرة عام 1924 و تنقل في مهن كثيرة و كان لحياته القاسية أثرها في رواياته ، و عن ذلك الأثر قال مينا بمرارة:" كنت أعاني البطالة والغربة، والفقر، والجوع، وأحسد الكلب لأن له مأوى"!! بعد أربعين رواية و كتاب يصف مينا الكتابة "بالمغامرة" مرددا مقولته التي تنز دما:"ملعونة الكتابة إلى يوم القيامة"..و يؤكد أن الرواية العربية قد :"اكتسبت هويتها العربية بتجاوزها المحلية إلى العالمية قبل نوبل نجيب محفوظ و بعدها"،منوها إلى أن الأدب العربي بقديمه و بحديثه ، لم يتناول البحر :"تناولا فنيا إبداعيا ، أما ما جاء في ألف ليلة و ليلة و غيرها عن البحر ، فإنه مجرد حكايات لا قيمة إبداعية و فنية لها"، و لذلك أعطى مينا كثيراً من الاهتمام للبحر في رواياته، ويقول:"إن البحر كان دائما مصدر إلهامي حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي"!! و يطالبنا أن نقول على لسانه :" أنا البحر ! و في شراييني يجري ملحه بدل الدم"!!