صحوت مبكرا، ومع تباشير الفجر الأولى كنت قد حزمت أمتعتي وصرت جاهزا للسفر إلى زنجبار.. مدينتي الغالية التي سلبوها مني عنوة لأكثر من عام كامل. وفي طريق العودة من عدن إلى أبين الممتد عبر صحراء بحر العرب كانت الأحلام الوردية والآمال المشرقة تتقمص شخصيتي وتفقدني توازني أحيانا فتخرج من فمي كلمات متناقضة دون رضى مني.. أحيانا أتمتم بكلمات (جوفية) تحمل معنى الغناء وأحيانا أخرى اجهر هاتفا بالتكبير فيلتفت إلي أفراد أسرتي طالبين الإفصاح عما يجول في خاطري فأجبتهم بلا تردد إنه الشوق لرؤية زنجبار.. ورؤية حارتي بشوارعها وأزقتها ومسجدها الصغير ومنزلي الذي عشت فيه أهم سنين عمري.. وعلى جناح الشوق أسير في طريق العودة حتى بدت لي مشارف أبين من مدينة الكود ذات البساتين الخضراء والأشجار الوارفة والبساتين الغناء، وذلك التشابك العجيب لأشجار ضخمة على جانبي الطريق وهي تتعانق بفروعها في السماء حتى شكلت (نفقا طبيعيا) لا مثيل له.. إنها أبين الطبيعة الساحرة وقد عادت لنا بعد أن فقدناها فاشتقنا كثيرا لرؤيتها.. إنها أبين الخضراء مازالت تبتسم لزوارها ولكن (على استحياء) هذه المرة نظرا لما أصابها من دمار وخراب يبعث على الذهول. نعم حب الوطن الإيمان وصلنا في ضحى ذلك اليوم إلى زنجبار وبدت لنا غير ما كنا نتوقع... حزينة، كئيبة، موحشة.. وبها من الدمار والخراب ما الله به عليم ورأيناها وكأنها مدينة باكية تندب حضها العاثر جراء وقوعها فريسة سهلة لدهاقنة مافيا السياسة الرعناء التي لا يرعوي أصحابها.. وحين وقفت وسط الشارع الرئيس رأيته كئيبا موحشا مليئاً بآثار الدمار ومخلفات القصف وآثار العابثين بالأرض والإنسان والحياة مازالت ماثلة توحي وكان التتار قد مروا من هنا ذات يوم... حقا لقد ذهلت من المنظر المروع لمدنية أصبحت أطلالا بعد أن كانت عامرة بالحب والحياة.. ووجدت نفسي أردد لا شعوريا: الله يجازي الذي كان السبب!! الأطفال كادوا أن يقبلوا الحائط حين دلفت إلى منزلي الكائن في قلب المدينة في حارة النصر وجدت أبوابه مفتحة على مصراعيها وجميع نوافذه والأدوات بداخلة مكومة على بعضها مهشمة تماما والرياح تدخل إلى المنزل من الجنوب إلى الشمال محدثة أصواتا حزينة وغاضبة وكأنها تشكو حال المنزل وما تعرض له من تدمير بفعل القصف العشوائي المدمر.. والعجيب في الأمر أن أطفالي رغم حزنهم العميق على ما حل بمنزلنا إلا أنهم احتضنوا جدران المنزل وكأنهم يقبلونها وكأنها ليست جمادا وهم يقولون بصوت طفولي برئي: بيت العز يا بيتنا على بابك عنبتنا. موقف عاطفي مؤثر لاشك لأن الحنين إلى المنزل طغى في أرواحهم البريئة حتى على حالة الخراب التي طالته بأيادي العابثين بأمن الوطن وأهله، نظرت إليهما وهما يتلمسان جدران المنزل ويتمتمان بكلمات طفولية تجسد حب أول منزل في حياة الفرد وتذكرت قول الشاعر العربي: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل عودة النازحين والموت المتربص بدا أبناء المدينة يعودون أفرادا وجماعات إلى مدينتهم يتفقدون منازلهم ومتاجرهم بشوق ولهفة لم تمنح الكثير منهم فرصة للتفكير في المخاطر فكانوا فرائس سهلة لحقول الألغام القاتلة التي زرعت في منازلهم أو بجوارها فكانت حصيلة الأسبوع الأول أكثر من 30 شهيدا من المواطنين في زنجبار والكود فقط. لقد زرعت الألغام في الحارات والمنازل على ضواحي المدينتين بصورة توحي بأن ما سمي بأنصار الشريعة ليسوا كما يدعون وإلا لما نشروا كل هذا الموت في جنبات المدينة حتى بعد رحيلهم عنها فهم يعرفون سلفا أن الجيش لديه من وسائل كشف الألغام ما يجنبه الوقوع فيها ولكن المواطنين هم الضحايا السهلة وهذا ما حدث تماماً.. فأي نفسيات يحملون وأي قلوب يملكون، وأي شريعة يمثلون، والله المستعان على ما يفعلون. هكذا بدت لنا المدينة إنها أشبه بمدينة أشباح فحتى الحيوانات الضالة هجرتها، مبانيها مدمرة في الغالب، شوارعها خاملة ولا تسمع فيها إلا صفير الرياح، وإن كان أهلها بدءوا بالعودة إليها أفرادا ولم يستطيعوا البقاء فيها فعادوا أدراجهم إلى عدن حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. سألنا من صادفناهم من الأهالي عن سبب عدم بقائهم في ديارهم فأجابونا بما يشبه الإجماع على ما يلي: 1- بيوتنا مدمرة لا تصلح للسكن ويصعب علينا ترميمها. 2- حقول الألغام تحصد الأرواح البريئة ولا أثر للفرق الهندسية لإزالتها. 3- عدم وجود الكهرباء. 4-عدم وجود مياه الشرب. 5- لا توجد قوى أمنية لتامين المدينة نهارا إما ليلا فتصير المدينة وكأنها في حالة حضر التجوال وتسمع أصوات الرصاص من كل حارة ولا تعرف من يطلقها. 6- لا توجد لجان حصر الأضرار ولا أحد يكترث لحال المدينة. 7- لا وجود للسلطة المحلية ولا أثر لأي إجراءات تدفع المواطنين للبقاء. 8- جهد المحافظ متواضع بالقياس إلى حجم المأساة ومجلات تشعبها واللجان الشعبية في المدينة شكلت باجتهادات فردية وقد تكون جزء من المشكلة لا من الحل. 9- محمد علي الشدادي نائب رئيس مجلس النواب وممثل عن زنجبار جهز قريته في ضاحية زنجبار وجاء بفرقة هندسية فإزالة الألغام من قريته (حصن شداد) وجلب لأهله المولدات الكهربائية المؤقتة ووفر لهم بعض الاحتياجات كالأدوية والأطباء والمياه وغيرها وترك المدينة التي على ظهور أهلها صعد إلى عضوية مجلس النواب تواجه مصيرها وعاملهم بالجحور والنكرات (جزاء سنمار). هذا ما أجمع عليه الكثير من أبناء زنجبار حتى أن بعض النسوة يخططن لإقامة مسيرة احتجاجية ضد الشدادي في الأسبوع المقبل كما سمعنا.