تتصاعد الأحداث والأنشطة التي تنفذها وتتبناها القاعدة، ويحرص بقايا نظام صالح على تأكيد أن القدر الذي ارتفع من وجود ونشاط القاعدة ليس إلا مقابل القدر الذي انحسر من نظامهم. وهي رسائل موجهة إلى الخارج ليتمسك بما تبقى من هذا النظام، بل وليعيد لهم -بأي صورة من الصور- ما انحسر من ذلك النظام. ولا تزيد الأطراف الأخرى على إثبات صلة نظام صالح بهذا التنظيم ونشاطه على أمل أن تقنع الخارج بالتخلي عن هذا النظام وبقيته كسبيل وحيد لإيقاف الارتفاع المتواصل في حضور ونشاط القاعدة. وسبق للرئيس هادي التهديد بالاستقالة في حال استمرت تدخلات صالح، وهو تهديد للخارج بنسف مبادرتهم الخليجية وما ألحق بها مما أفرزته الجهود الأممية ودعم الأطراف الدولية الكبرى. ومؤخرا أدلى مسؤول برئاسة الجمهورية بتصريح شكا فيه للخارج تدخلات صالح، وطالب الأطراف الدولية بالضغط عليه إن كانوا يريدون يمنا مستقرا –حسب تعبيره. وليست هذه إلا مؤشرات طفيفة تنم عن مستوى هيمنة الخارج وتحكمهم بمصير اليمن حتى في ظل الثورة الشعبية العارمة وإلى درجة لا يبدو فيها أن هناك طرفا يعول على شيء في الداخل إلا كعامل مساعد وثانوي. وتعتمد الولاياتالمتحدة في نفوذها باليمن على الملف الأمني الذي يوجه سياستها ويتحكم في قرارها، وأبرز مفردات هذا الملف هي: الحرس الجمهوري، والأمن المركزي، والأمن القومي. وهي الأجهزة القائمة على تدريب وتأهيل وتسليح أمريكي، وعلى قدر كبير من التمويل المالي الأمريكي. وتخل�'ي الولاياتالمتحدة عن هذه المؤسسات يعني تنازلها عن أهم أزرار تحك�'مها باليمن، وهذه هي العقدة التي تحد تجد مناشير التغيير صعوبة بالغة في قطعها. ومن المعروف أن الولاياتالمتحدة غير معروفة بالوفاء لحلفائها كأشخاص، وأنها لا تبالي بهم ولا تتردد في التخلي عنهم إذا لزم الأمر كما فعلت مع مبارك وصالح وغيرهم، لكنها تبدي –حتى الآن- تمسكا بأبناء صالح الممسكين بزمام القرار العسكري والأمني في اليمن من خلال المؤسسات التي يقودونها. وقطعا لن يستمر هذا الموقف الأمريكي إذ لا يعدو هؤلاء أن يكونوا أشخاصا يمكنها التنازل عنهم ما دام الرفض الشعبي لهم مستمرا، إلا أنها تحتاج إلى صياغة البدائل أو التثبت من بقاء مؤسساتهم في يدها بعد رحيلهم. ولاشك أن قضية كهذه تحتاج وقتا طويلا وظروفا مناسبة، وهذا هو ما أراده السفير الأمريكي بقوله إن هيكلة الجيش تحتاج إلى سنوات!! الرئيس هادي ودفع الثمن مقدما يدرك الأمريكان جيدا أن بقاء أي من هؤلاء الأبناء في موقعه العسكري أو الأمني أمر مستحيل، وما يسُوقُها أبناء صالح من تأكيدات للخارج على ضرورة بقائهم وإمكانية استمرارهم أمرٌ لا يمكن للأمريكان الوثوق به. بالمقابل يدرك الشعب اليمني حجم التعقيد في هذه القضية، ولهذا ارتفعت الأصوات المطالبة بإقالة أقارب صالح على حساب المطالب السابقة بهيكلة الجيش، وإن كان هذا المطلب لا يزال مستمرا، وكأن الرأي العام اليمني يبدي تفهمه لهذا الوضع المعقد، ويمكن أن يبدأ التعامل مع قضية الهيكلة بنفس طويل، لكنه غير مستعد للتراخي في مسألة إقالة الأقارب. وكم يبدو الشعب اليمني ملفتا للنظر وهو يحدد خياراته وتوجهاته ويتحسس طريقه، فيما تتعنت الولاياتالمتحدة وتصر على عدم تفهم رغبة الشعب اليمني وحساسية بقاء هؤلاء الأبناء لديه، رغم أن هذا الشعب هو صاحب الأرض ومالك القرار. وبين ما أشير إليه من رغبة وآمال وتوجهات كل من الأمريكان والشعب الثائر، هناك توجه لأبناء صالح –بالمقابل- ويبدو هذا التوجه ذا شقين أو خيارين: إما الاستمرار في الحكم، وإما الفوضى والاحتراب وتقطيع الوطن وشعبه. وكأن اندفاع علي صالح للعودة إلى المشهد خلال الأيام الجارية وما تبع ذلك من اندفاع كبير من قبل أقاربه ورموز نظامه من أجل الظهور، كأنه ليس إلا ردة فعل على ثورة منتسبي الجوية التي كادت تحقق هدفها المتمثل بإقالة محمد صالح الأحمر. ذلك أن خروج محمد صالح من قيادة القوات الجوية سيعني -بالنسبة لصالح- انكشاف الظهر وفقدان أهم عناصر التفوق العسكري، أي: احتراق أحد خياراته المشار إليها سابقا، بل ربما أن هذا هو الخيار الأقرب إليه. والرئيس عبدربه هادي الذي يحاول انتزاع كرسيه وصلاحياته الرئاسية بهدوء ومن غير إثارة للضوضاء والجلبة، يعطي ثورة قوات الجوية اهتمامه، ويبدي لها استعداده لتحقيق هدفها، ويحاول ذلك فعلا، ولكن بطريقة غلب عليها اللين والترفق. بل حتى إن تعيين طارق محمد عبدالله صالح قائدا للواء الثالث حرس جمهوري الذي أثار الاستغراب، كأنه كان ثمنا مقابلا لإزاحة محمد صالح من موقعه، ولم ير فيه الرئيس هادي ثمنا باهظا على أساس أن الخطوة الأولى هي إزاحة محمد صالح، ويمكنه –فيما بعد- الالتفات إلى الجناح البري عن فعل شيء بعد فقدانه سلاح الجو. كما أن هذا اللواء الذي أسند لطارق لم يكن -من قبل- خارج إدارة عائلة صالح، وبالتالي فإن قرار تعيين طارق على رأسه تحصيل حاصل، ولا يعتبر ثمنا عاليا مقابل خروج محمد صالح من قيادة الجوية. وإن صح هذا، فالرئيس هادي لم يرتكب خطأ كبيرا بتعيين طارق قائدا لهذا اللواء، وإنما الخطأ الفادح هو أنه دفع هذا الثمن مقدما..!! وكم كان ملفتا ومثيرا للشفة ذلك الاتفاق الذي عقده الرئيس هادي مع محمد صالح والذي قضى بمغادرة الأخير لموقعه كقائد للقوات الجوية.. كم كان مثيرا للشفقة حين جاء بوصفه "مقترح" قدمه الرئيس هادي، وكان عليه أن يتخذ بشأنه قرارا جمهوريا لا أن يقدم له "مقترحا"، تماما كما فعل مع طارق حين وضعه على رأس اللواء الثالث ب"قرار جمهوري" لا بمقترح!! والواضح –بهذه الكلمة- أن هادي ما زال يعتمد على القاموس الذي كان يستخدمه خلال فترة عمله نائبا للرئيس، ولم يستبدل به القاموس المخصص للرئيس!! هادي وأولاد صالح.. من يحسم النهاية؟ أخيرا.. اللعبة لم تنته بعد، والوقت لم ينفد، وإزاحة الرئيس لمحمد صالح لن يكون -فقط- استجابة إنسانية وأخلاقية وإدارية لثورة منتسبي القوات الجوية، وإنهاءً لأزمة حادة في القطاع العسكري، وعملاً من الرئيس هادي بما يمليه عليه موقعه كرئيس للجمهورية، بل ستكون خطوة استراتيجية على طريق انتزاع الرئيس هادي لصلاحياته وسلطاته وامتلاكه الكامل لختم الرئاسة!! ومن المؤكد أن هدفا كهذا لا يمكن التحول عنه لمجرد أن الوسيلة اللينة والمترفقة فشلت في تحقيقه. ومخاوف صالح من لجوء هادي إلى إنقاذ هذه الخطوة بطرق أخرى غير لينة، ربما أنها سبب رئيسي من أسباب ثورته المسعورة في الوقت الحالي، وسبب رئيس من أسباب وصول العلاقة بينهما إلى المستوى الواضح والعلني من الخصومة التي نشاهدها. وبما أن الأمور وصلت إلى حيث وصلت، وأن هادي قد كشف عن توجهه نحو الاستجابة لثورة منتسبي الجوية، فإن التصعيد سيحسم لصالحه باعتباره الرئيس المسنود دستوريا وشعبيا وإقليميا ودوليا، ويهون دون هذه النهاية الحاسمة أي ثمن، ثم يمكنه –بعد ذلك- الاستراحة لبعض الوقت. أما إذا فض�'ل الانسحاب والتراجع، فحتما لن يتمكن –بعدها- من إمضاء أي قرار. حتى الصلاحيات المنقوصة التي يمسكها بيده في الوقت الحالي ستتفلت منه تباعا.