الحوار من المفردات التي تتكرر في حياتنا السياسية وتتردد كثيرا في وسائلنا الإعلامية، والحوار بين البشر من القيم الإيجابية، والمعاني المتقدمة لكنه في الوقت نفسه يعبر عن مشكلات عميقة، والحديث عنه على النحو السائد يدل على مدى غيابه، وأنه مفقود على المستوى العام، والحوار بين طرفين أو أكثر في الأصل لحل نزاع، ويعتمد على قوة الحجة والإقناع، واستعداد أطراف الحوار للإصغاء والتسليم بما هو مقنع. الحوار –إذا- هو واحد من وسائل ترتيب العلاقات بين الناس، ومن وسائل إيجاد حلول للمشكلات، والفصل في التنازع، وهناك التفاوض الذي يكون الحوار جزء منه، أما العناصر الأخرى في التفاوض فإنها مدى امتلاك كل طرف لعناصر قوة، وأوراق ضغط على الآخر ومن ثم انتزاع مصلحة مشروعة أو غير مشروعة. الشكل الثالث أنه من الحلول الحرب بين طرفين أو أكثر لحل النزاع وفرض إرادة طرف على أطراف عن طريق القوة. الحديث عن الحوار الوطني هو في جوهره حديث عن تنازع بين أطراف، وعنوان لمشكلات عميقة، تعتقد الأطراف المختلفة أن الحوار هو الآلية المناسبة لإيجاد حلول لها وتتوافق الأطراف المختلفة بشأنها لكن السؤال الكبير هو: على ماذا الحوار؟ ومن يقنع من؟ إن الحديث عن الحوار يكتنفه الكثير من الغموض، فالمتحدثون ومعهم لجنة الاتصال لا يوجد في أذهانهم أي وضوح بل غموض واضطراب، وذلك شأن الحوار حين لا يدرك المتحدثون عنه الفروق الجوهرية بين القضايا القابلة للحوار بشأنها والقضايا التي لا تقبل الحوار ولا تحتمل الجدل والأصل أنها محسومة ومجمع عليها، فإن كان هناك من لا يسلم بها فإن القوة وحدها كفيلة بحمله على التسليم. معايير مرجعية أولا: وظائف الدولة وواجباتها والالتزام السياسي من قبل المواطنين تجاهها الدولة هي عبارة عن كائن من ثلاثة أضلاع: شعب وأرض وسلطة. واتفق البشر على قيامها لتكون الصيغة الجامعة التي يلتف حولها الناس والعلاقة الطبيعية بين الدولة والمواطنين هو أن على الدولة وظائف وواجبات تجاه مواطنيها وتقوم بوظائفها بواسطة السلطة بفروعها الثلاثة المعروفة لتحصل بالمقابل على ولاء المواطنين لها وطاعة قوانينها، والدفاع عنها إن لزم الأمر. أ- وظائف الدولة وواجباتها: 1- الحماية: من وظائف الدولة الرئيسية الأولى المحافظة على وحدة الدولة وسلامة أراضيها وجزرها ومياهها الإقليمية، المحافظة على الأمن والسلم الداخليين، وتحمي ذاتها ووحدتها من العدوان الخارجي بواسطة القوات المسلحة، وتحافظ على الأمن والسلم بواسطة الشرطة، وهناك أجهزة استخبارات وقوات وسيطة بين الجيش والشرطة "الحرس الوطني" للإغاثة في حالة الكوارث الطبيعية والحروب، وقمع التمرد الداخلي وخوض حرب عصابات ما يتعارض مع وظيفة الحماية. وجود جماعة/ جماعات مسلحة، تشكيل مليشيات أي أن احتكار الدولة للسلاح مسألة مفروغ منها، نقول دولة وليست سلطة منحرفة، ومن ثم فإن تجريد أي جماعة منظمة من السلاح مسألة لا تقبل الحوار، ولا تطرح للنقاش، بل إن ذلك يفرض على أي جماعة مسلحة قبلت الدعوة للحوار أن تضع السلاح أولا، ويفرض على أجهزة الدولة تجريد أي جماعة من السلاح حتى يستقيم الحوار. ب- المساواة والعدالة والخدمات من وظائف الدولة وواجباتها: إرساء المساواة أي النظام العام فالنظام جوهره المساواة بين المواطنين، وعدم التمييز أو التسيد، ذلك أن وجود امتيازات لأفراد أو جماعات يتعارض مع النظام بل ينقضه المساواة بين المواطنين تتلخص في شعور المواطنين بالأمن والسكنية والطمأنينة أي أنه لا يخشى من تسيد أو امتيازات لفئات من مصادرة حقوق الآخر. على سبيل المثال لا يمنع المواطن من القيام بعمل في أجهزة الدولة لأنه من بني فلان، أو من المنطقة الفلانية، فالدولة في المساواة تعتمد الكفاءة والنزاهة أو القوة والأمانة والحفظ والعلم أو التخصص والمؤهل فإذا اعتمد المسئولون انتماءات أخرى أو معايير أخرى فإنه تمييز يهدم النظام. ما يتعارض مع المساواة التي هي جوهر النظام، هو وجود أفراد وجماعات يدعون للتمييز أو يطرحونه جزء من ملتهم، إنهم هنا يتعارضون مع النظام ومن ثم مع مفهوم الدولة، ومن ثم لا يمكن الحوار بشأن المساواة وعدم التمييز وعدم الامتيازات، إنها غير قابلة للحوار ولذلك فإن أي جماعة تدعو للتمييز، تدعو للتسيد، لا يمكن جلوسها للحوار ما لم تعلن إعلانا صريحا أنها تخلت عن التمييز ويتجلى ذلك في سلوكها في عدم إطلاق لقب السيد أو السادة على سلالة أو عرق. إن القبول بالحوار مع مجموعة تعتقد بالتسيد ويعتبر جزء من ملتها تعبير عن الفوضى. 2- العدالة ويعني العدالة تكافؤ الفرص بين المواطنين جميعا وعدم وجود شخص أو فئة فوق القانون وخضوع الجميع لإجراءات واحدة في التقاضي وحياد واستقلال القضاء ويعني العدالة الاجتماعية تحرير المواطن من الحاجة وتحريره من الخوف. أي جماعة أو حزب، أو فئة أو شخص يزعم أنه فوق القانون وأنه السيد والقبيلي لا يجلسان سواء أمام القاضي، وأن الشيخ لا يمثل أمام النيابة، وأن بني فلان يمنحون فرصا لا تمنح لغيرهم وأن أمام الشرطة والتنظيم والتعليم وخدمات والمواصلات والمياه والكهرباء، تمنح لمنطقة دون أخرى وتمييز أحياء أو مدن أو قرى، ووجود فقر وحاجة والخوف من المعاملات في الأقسام والخدمات المختلفة، كلها تتنافى مع واجب الدولة في العدالة. التسيد والتميز يعني انعدام العدالة، فحين يعتقد أن له امتيازات على سائر الناس فإنه نقيض للنظام والعدالة، وغير قابل للحوار أو النقاش ما لم يقر بالعدالة وتكافؤ الفص ويمارس ذلك سلوكا لا حوار مع التمييز والظلم بل دولة تلزم مواطنيها بالانصياع لقوانينها لنظام وعدالة. 3- كذلك شأن الخدمات من واجبات الدولة تجاه المواطنين الطرق والمواصلات وهي تعود بفائدة على الدولة ومواطنيها، تمكنهم من الانتقال والاندماج الاجتماعي وإيصال الخدمات والمشاريع الأخرى. وتقدم الدولة خدمات الصحة والتعليم، فالصحة تعني مواطنين أصحاء منتجون، وأن يكونوا سواسية في الحصول على الخدمات الطبية، المرضى لا ينتجون ثم يكونون عبئا على الدولة، بمعنى آخر إنها تقدم خدمات طبية وقائية وعلاجية للمواطنين كافة. وكذلك شأن التعليم يقدم لكل المناطق ولكل المواطنين بلا استثناء وبه يشكل وحدة وتجانس المجتمع، وبه يتقدم وتنهض. أي تمييز أو دعوة للتمييز فإنها غير قابلة للحوار، وأي تعليم خارج الأصول والسياسة التعليمية للدولة مرفوض، والتعليم شأن علمي معرفي. الذين يدعون إلى تعليم مذاهب وطوائف، يتناقضون بالضرورة مع مفهوم الدولة، وخدمة التعليم. * الوظيفة الاقتصادية وتعني قيام الدولة برفع مستوى الدخل وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، والمحافظة على قيمة العملة، ورعاية الصناعة الوطنية، والزراعة والاستثمار الأمثل للموارد الطبيعية والحيلولة دون العبث والتبديد للثروة الوطنية وتحصيل الضرائب المستحقة، وتوظيفها في تقديم الخدمات المختلفة وتحسينها. تلك وظائف الدولة وهي معايير لمحاكمة أداء السلطات المختلفة، والأجهزة والأدوات العامة من جهة، وهي من جهة أخرى معايير وسقوف لأي حوار يجري بين أطراف مختلفة في البلاد. والخلاصة هنا: لا يمكن أن يكون الحوار بشأن وحدة الدولة وسلامتها، فيجب أن لا يكون هناك خارج سقف الوحدة.. المحافظة على الأمن والسلم فلا حوار مع من يحمل السلاح.. المساواة وعدم التمييز والتسيد، فلا حوار مع من يعتقد أن له امتيازات.. العدالة وتكافؤ الفرص، فلا حوار مع من يعتقد أنه فوق القانون.. الخدمات المختلفة والاقتصاد الوطني، فلا حوار مع من يعتقد بأن المال العام مباح له أو لغيره أو يعتقد أنه ليس عليه دفع ضرائب مستحقة أو من يعتقد أن له حقا خاصا في ثروات البلاد واقتصادها. (ب) الالتزام السياسي من قبل المواطنين - الولاء العام للدولة إن واجب المواطنين تجاه الدولة هو الولاء العام لها، أي أيا كانت مواقعهم وصفاتهم، الرئيس والمرؤوس، الفلاح والطبيب والعامل والوزير، وأينما كانوا. لا معنى للحوار مع جماعة أو فئة تعتقد أن الولاء لها مقدم على الولاء العام للدولة، أو أن الولاء لأسرة أو عشيرة أو فئة أو منطقة أو حزب مقدم على الولاء العام للدولة. إنه إضعاف الولاء العام للدولة إضرار بالبلاد أرضا وإنسانا. - طاعة قوانينها إن طاعة القوانين شأن غير قابل للحوار، والجماعات المسلحة ودعاة التمييز خارجون على القانون ولا حوار معهم حتى ينصاعوا للقوانين. ثانيا: الأساس العلمي المعرفي إن الآراء تختلف، وإن الإرادات تتصارع، وفي الشئون العامة لا يمكن ترك قضايا هي بطبيعتها خلافية معلقة، فلا بد من حسمها، وقد يعجز أي طرف عن إقناع أطراف أخرى برأيه، ولا تحل عن طريق التفاوض، وامتلاك أوراق ضغط فذلك فرض إرادة طرف/ أطراف على طرف/ أطراف أخرى، ولا تحل عن طريق الحروب لأنها تنتهي إلى البداية حوار وتفاوض ويكون قد أنتجت مشكلات جديدة. ومن هذه القضايا هل إن شكل الدولة الحالي القائمة على وحدة اندماجية هو الذي ينبغي أن يتم أم التحول إلى الفيدرالية دولة اتحادية، وهل تكون ثنائية أم خماسية أم أقل؟ أم إجراء تعديلات على الصلاحيات بين المركز والمحافظات والمديريات بحيث تكون لامركزية إدارية واسعة. هل الأفضل التحول إلى النظام البرلماني، أم نظام رئاسي أم الثنائي؟ وكيف تعالج سلبيات أي منهما؟ هل يكون بالقائمة، وأي قائمة نسبية أم مغلقة، أم نظام مختلط بالقائمة وفردية، أم النظام الفردي؟ هل يكون خليطا من القطاع العام والقطاع الخاص، هل يتوسع العام أم يقلص؟ تلك القضايا لا بد من حسمها، قبل إعداد الدستور أو على الأقل قبل نهاية الفترة الانتقالية. أي أنها وإن كانت تعبر عن تعدد آراء وإرادات إلا أنها مرتبطة بالشأن العام مباشرة بالدولة لذلك هي غير قابلة للتعليق بل تقتضي الحسم. إن الحوار بشأنها غير ذي جدوى، والتفاوض ينتهي إلى فرض إرادة الأقوى على الأضعف، والحروب بشأنها تنتهي إلى تفاوض وحوار بعد أن يكون قد أوجدت مشكلات أخرى د تكون أعمق وأعسر على الحل. مرجعية علمية إن الأصل أن تحال مثل تلك القضايا إلى باحثين متخصصين في السياسة والشئون الاستراتيجية والأمن القومي –ليس جهاز الأمن القومي- إضافة إلى فقهاء دستوريين وقانونيين متمرسين، وذلك بشروط منها: 1) أن يكون واضحا في أذهانهم أن ما يقومون به لا يعبر عن إرادتهم ولا عن آرائهم بل بحث ودراسة مجردة للوصول إلى الحقيقة، وموازنة علمية دقيقة بين المصالح والمفاسد، وحساب للمخاطر والفرص. 2) أن يقدموا كل خيار مشفوعا بإيجابيات وسلبيات الأخذ به، وأن يرجحوا في نهاية المطاف، وسواء كان الباحث واحدا أو أكثر فلا بد من الترجيح إن كانوا أكثر بالتصويت. 3) أن تكون قراءتهم قراءة فهم كلية شاملة ناظرة للمستقبل، أن يكون لدى جميع القوى استعداد للتسليم بما يصل إليه الباحثون المتخصصون، وأن ما يصلون إليه هو عبارة عن حلول لمسائل وقضايا الخلاف. ثالثا: قضايا التعدد إن هناك قضايا بطبيعتها تعبر عن التعدد والتنوع وليس مطلوبا ولا ممكنا أن تكون محل اتفاق أو توافق أو إجماع، ولا تقتضي الحسم، إنها التعدد في إطار الوحدة وحرية تأخذ بعين الاعتبار الآمن. البرامج من حق الأحزاب السياسية أن تختلف على مستوى البرامج، وفي ترتيبها للأولويات والاهتمامات، فقد يهتم حزب ما بالتعليم ويجعله من أولوياته، وآخر يهتم بالاقتصاد، وثالث يجعل القوات المسلحة والأمن في طليعة الاهتمامات، ورابع يجعل السياسة الخارجية محور الاهتمام، لكن لا يعني ذلك إهمال الشئون الأخرى.