مستشفى المجذومين، عنوان مكتظ بالألم ومليء بمعاناة لا نهاية لها.. مكان لابد أن يذهب بك بعيداً عن الاكتئاب حين تكون تبحث عن لحظة إنسانية، وكثيرة هي القصص.قصص لأناس يعيشون في مدينة النور في محافظة تعز.. مآسٍ كثيرة تمشي على قدمين أحياناً، وتحبو فوق حصى المعاناة الشديدة وتنام على سرر مفروشة بالأسف داخل مبنى مسور بالأمنيات المكبوتة خلف العيون الغائرة. مستشفى الجذام بلد لا يقل وصفاً عن بلد كبير عائم في السياسة هي اليمن، ومرضى الجذام أبناء كارهون لبلدهم المستشفى، ولا ملجأ لهم.. عليهم تحمل مشقة الداء حتى يحين موعد لا مسمى له..! ما أسوأ العيش مع مرضى الجذام، والمصيبة الأفدح أنهم يعيشون خارج الاهتمام الرسمي والاجتماعي وحيدين في مدينة اسمها النور، لكن الظلام يبدو أنه تغلب عليه. ليسوا في انتظار الشفاء أو العلاج لكنهم في انتظار الموت.. الحلم بماء الوضوء ووجبة إفطار! 17 سنة وأكثر قضتها نقية صالح جافر في مستشفى الجذام، ولم يتجاوز حلمها الآن غير الحصول على ماء للوضوء ووجبة إفطار تسد رمق الجوع المتعمد في «مستعمرة الجذام». السنوات التي قضتها وتقضيها نقية هي صحيحة بشكل متقطع، ولكن هذا التقطع ليس معناه المكوث عند الأهل في محافظة حجة أكثر من أسبوع في السنة كأعلى تقدير حسب قولها. نقاء امرأة متعبة لا يبعد عن مرمى العبث والتحايل من قبل أطراف عديدة تعمل جاهدة على إيلام المرضى قدر الإمكان بدلاً من التخفيف عن الألم. باتت بعض الكدمات على ساعدها وقدمها بسبب مطالبتها بتغيير إدارة المستشفى. ذكرت بعض الأسماء وهي تسرد القصة مؤكدة أن قيادات في المستشفى استعانوا بالشرطة لإخماد ثورة المرضى، وأن رجال الشرطة قاموا بالاعتداء عليها بالضرب، وأضافت: «والله إنهم ضربوا علينا حتى الرصاص والله واحنا صائمين»، وعن تواصل الأهل معها قالت: «أهلي يتواصلوا معي بعض الأحيان؛ لأنهم يخافون من الجذام أن ينتقل إليهم». تكالب من كل مكان ضد مرضى الجذام، الأهل، الإدارة، المجتمع، الحكومة. لا تستطيع نقية أن تعبر عن مدى حزنها لهذا المرض وخوف الناس منها وتعاملها مع حالتها بخوف شديد من أن المرض غير معد. ومع ذلك مازالت تحلم بأن تعيش مع بقية المرضى بشكل لائق، وهذا اللائق ليس أكثر من «الماء والتغذية». من جنة العدين إلى جحيم الجذام غادر محمد مسعد محمد جنة العدين بحثاً عن مأوى يحترمه كمريض له خصوصياته فوجد نفسه في مستشفى الجذام. داهمه المرض منذ ثلاث سنوات على شكل «أعراض من بينها الحكة» فغادر بعد سنة ونصف منطقة العدين وحل ضيفاً ثقيلاً في مدينة النور شمال تعز. غير أن هذا المريض له خصوصياته طبعاً وخصوصيته تلك تستدعي التدخل لإنقاذه وأسرته من مستنقع الوجع الذي يحيط به. حكى محمد قصته بدءاً بقوله: «عندي حساسية جلدية صدفية قريبة للجذام». كان يروي قصته وبكلتا يديه علاجات وفواتير باهظة الثمن، بالنظر لحالته المادية هذه العلاجات جعلت حالته تتحسن شيئاً فشيئاً وأدت إلى تماسك جلده بعد أن كان قد بدأ يتساقط. يقول: «كان مقرر لنا علاجات مجانياً على حساب جمعية مرضى الجذام» ولكن ومنذ ما يقارب من عشرة أشهر صرنا نشتري العلاج على حسابنا الخاص. لمحمد مسعد أسرة مكونة من ثمانية أولاد وزوجة إضافة إلى أم تعيش معه، يقول: كنت أشتغل «حجر وطين»، ولا أعلم كيف تعيش أسرتي الآن، فلا أتمكن من زيارتهم إلا في العيد. الزيلعي.. مجذوم في السجن 4 أيام من الأسبوع الفائت قضاها الحاج علي سعيد صالح الزيلعي في السجن بتهمة موجهة إليه تثير الضحك!! للمجذومين خيمة أمام إدارة المستشفى، إلا أن هذه الخيمة لها دوافع تحركها حسب تعليلات إدارية وإن كانت المطالب مشروعة. الخيمة التي صارت قطعاً كانت تجمع بداخلها مرضى يعتصمون للمطالبة بتغيير إدارة المستشفى وهي تبعد نحو تسعة وعشرين متراً عن سكن المرضى. الأحد الفائت كان علي الزيلعي عائداً من الخيمة إلى السكن، لكنه تفاجأ بالطقم المحاصر للخيمة وهو يأخذه وزميله في المرض محمد السحولي ويقتادهما إلى السجن «قسم شرطة»، حيث وجهوا له تهمة الرجم بالحجارة! ينسى الزيلعي ذاته ويتجسد شخصاً كامل أطرافه وهو يقسم «وأنا والله ما رجمت» لو كانوا نظروا إلى يده لوجودها بدون أنامل تعينه على الإمساك بحجر؛ لأن الجذام قد افترس أصابعه وجعلها جلوداً تتساقط إلى الأرض قبل سنوات. قال: «بحث أصحابي عني أربعة أيام ولم يجدوني قبل أن يلقاني ولدي في قسم شرطة». أربعون سنة من المرض والاستيطان في المستشفى والزيلعي مازال صامداً في وجه قساوة الجذام! من يشتري الجنة بوايت ماء؟! تدحرج هذا العنوان من عجوز يقف عند باب المستشفى، والتي يشتكي منها كافة المرضى لازالت قائمة. والتيمم أصبح فرضا واجباً حتى وإن وجد الماء من باب عدم الإسراف. الكم الهائل من المرضى بلا مياه، بعد أن قامت مؤسسة المياه بقطع الماء عن مستشفى الجذام بحجة أن وزارة الصحة لم تقم بدفع قيمة الفاتورة الأخيرة والمقدرة بمائتي ألف ريال. ما دخل المرضى؟! كيف ل(الجانب المخول) أن يتركوا مريضة أو مريضاً مبتوراً قدمه يحبو إلى الخارج (ليتلقي بالسطل) الماء من السماء إذا نزل المطر أو ليتيمّم للصلاة كما يفعل معظم المرضى؟ يذكر أحد المرضى بأن فاعل خير تقدم بالتبرع «بوايت» لينقل الماء للمرضى لكنه تم مصادرته من قبل القائمين على المستشفى حد قوله. العام الماضي رفعت مذكرة إلى مؤسسة المياه التي قلعت العداد وإلى الجانب الرسمي في وزارة الصحة لكنها مرت مرور الكرام ولم يهتم بها أحد. كذلك رفعت مذكرة أخرى إلى بعض رجال الأعمال لكن لم يعرها أحد اهتماما.. نحن في هذا الملف نرفعها إلى من يقدرها في هذا الشهر الكريم ولا ندري من قد يكون فاعل الخير هذا، ولا نستبعد أن يكون شوقي هائل أو باسندوة أو عبدربه منصور!! أتمنى أن يلتفت رجال الخير لمرضى الجذام خصوصاً التغذية وأهم شيء (العداد) كانت تلك آخر جملة تلفظ بها الجندي والمشرف عبدالحكيم سالم علي دليلنا في مستشفى الجذام. مريض لم يغادر زمن الإمامة أحياناً تجيء النكتة من قلب المعاناة، وقد تكون نكتة محزنة. علي ثابت صالح لم يدخل اليوم واقعاً جديداً، ويريد أن يفرض لنا واقعه المرتبط بالماضي التليد كما يعتقد، فهو عندما يتحدث يقتني ألفاظاً ماضوية وكأنه يترحم على أيام زمان. داهمه المرض في الخمسينيات من القرن الماضي قال بأنه «مريض من أيام حكم بيت حميد الدين، ويبدو أنه لم يندمج بعد مع أي من حكام الجمهورية، عندما سألناه عن منطقته قال صالح: أنا من المناطق الوسطى (منطقة يريم. لواء إب). قدم أهل علي ثابت إلى مدينة النور التي تحتضن مستشفى الجذام ليكونوا قريبين منه، بينما هو يقطن في المستشفى من أيام الثورة والجمهورية ضد الإمامة. بعد تأوهات وتنهدات صنع الحاج علي ثابت مقارنة لتشخيص الوضع بين زمنه «الماضي» وهذه الأيام، قال: «عالجونا بيت حميد الدين الله يفتح عليهم، وهؤلاء لم يعملوا شيئاً بل ميتونا جوع. وبعد سرد جملة من المصاعب وتشديده بالقول: «أمانتكم الماء والتغذية». الباحث عن علاج! ما زال يكافح بحثاً عن العلاج منذ العام الماضي دون جدوى، وبنفس السرير الذي كان عليه في رمضان الفائت. هُنا قليلاً مما كان عليه مقبل غالب قبل عام. قبل ما يقارب من سنة وتسعة أشهر دخل مقبل المستشفى تاركاً خلفه زوجة وأربعة أبناء، هم حياته التي سخر نفسه لها والكد من أجلها لإدخال السعادة والمسرة على هذه الحياة. بالنظر إلى تاريخ دخوله المستشفى يتأكد أن مقبل غالب ما يزال في بداية مرضه وبالإمكان التخفيف عن معاناة ستكون طويلة جداً إذا لم تتوفر العناية اللازمة لحالة مقبل، وحقيقة العناية اللازمة تقتصر على الجانب المادي لتوفير الأدوية والعلاجات واستمرارية متابعة الحالة على هذا النحو كان قبل عام. ومازالت استمرارية معاناته حتى اليوم؛ إذ لا يوجد علاجات لحالة مقبل علي، وهي العلاجات التي تستوردها جمعية الجذام من ألمانيا، علاوة على أن العلاجات غير موجودة في السوق، فيما الجمعية لم تستورد الأدوية بعد. الوضع المادي لمقبل صعب جداً، وحالته تقتضي المساعدة حسب حديث المرضى المجاورين له، وكذلك أحد المشرفين الذي أوصى بضرورة نقل حالة الرجل إلى من يحمل بداخله الشفقة والرحمة، وبإمكانه إدخال السعادة على الآخرين. لم يستطع أن ينبس ببنت شفة في هذه الزيارة لكنه العام المنصرم كان قادراً على الحركة، فهناك عوائق كثيرة تحول بينه وبين حمل شيء ما في يده التي بدأت تتجعد وتتآكل، قد يقرر الأطباء بترها إذا اقتضت الضرورة حفاظاً على بقية الجسد.. قال مقبل غالب: «كنت أشتغل باليومية وأعول زوجتي وأولادي الأربعة»، وأضاف: الآن عمي يكفل أسرتي.. هذا المريض محظوظ أكثر من غيره؛ لأن زوجته وقلة من أقاربه يزورونه أحياناً وقد يكون ذلك في البداية فقط إن انتشر الطفح ولم يجد من يضع له النهاية لا قدر الله.. وقال: (لا أتمنى غير العافية). -والكلام له قبل عام. التغذية.. الموت المريح! التغذية، إحدى المشاكل العويصة التي تواجه المرضى حتى اليوم. قال موزع الطعام وهو يغرف بملعقته: «لحفة رز ليوزعها بين المرضى» نصرف ما يكفي بالكاد مائة نفر إلى 180 شخصاً مصاباً بالجذام. حجم التغذية وبالجرام حسب معلومات سابقة: 120 جرام رز لكل مريض 150 جرام طبيخ لكل مريض حبتين روتي وحبة جبن مثلث لكل مريض على مدار اليوم. وتوزيعها على هذا النحو: وجبة السحور حبة روتي وواحد شاهي إضافة إلى حبة جبن مثلث فقط، وأن وجبتي الفطور مع العشاء «ملعقة رز وملعقة طبيخ وواحد روتي». صورة الرئيس في مستشفى الجذام! بعض الأبناء يزورون آباءهم وينقلون إليهم أخبار الوقائع التي تحدث خارج «مملكة الجذام» وبعضهم يواكب تطورات العصر الحديث وتقنياته مستغلاً بذلك وسائل الاتصال الجماهيري لمتابعة آخر التطورات عبر «الراديو». يفتح مرض الجذام مسامعهم عله يتهادى إليها قرارات جديدة وجدية خصوصاً تلك القرارات المتعلقة بالأمراض وأهمها «الجذام» الذي سيطر على غالبية حياتهم إن لم يكن جلها.. وما كل المرضى يسمعون! في الواقع وبعيداً عن الاستماع يحدث شيء ملفت، وهو أن الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي متواجد بين المرضى، وذلك عبر صورة من الصور التي عرفت أيام الانتخابات التي ضمنتها المبادرة الخليجية. ثمة حدث هنا يثير التساؤل: كيف علقت الصورة؟! لقد امتلكوا فرادة القبول بالأمر الواقع، وتحدي الصعوبات التي تواجههم، هم لم يعلقوا أي صورة من قبل ويرفضون «صالح»؛ لأنه لم يلتفت إليهم؟ لكن الغرابة مازالت مستمرة. في إحدى غرف المرضى علقت صورة المشير» هادي»، كيف حدث ذلك؟ بعض المرضى مبتورو الأقدام وبعضهم مصابون بالعمى ولا يرون الصورة.