العليمي يستفرد بقرارات المجلس الرئاسي متجاوزا أعضاء المجلس    هجوم حوثي مباغت على قوات درع الوطن وسقوط قتلى وجرحى    استقالة مسؤول ثالث في الاحتلال الإسرائيلي.. والجيش يعلن عن اصابة نائب قائد كتيبة و50 آخرين خلال معارك في غزة    اشتراكي المكلا والديس يعقد اجتماعه الدوري    ثورة على الأبواب...غليان شعبي في عدن يهدد بثورة شعبية ضد الحكومة بسبب تدهور خدمة الكهرباء    عدن تغرق في الظلام: أزمة كهرباء خانقة تُعطل الحياة وتُفاقم معاناة المواطنين    بعد تصريحات حادة.. وزير الخارجية يلتقي المبعوث الأممي في عدن ويطرح عليه بقوة شرطة الشرعية للسلام    حماس تعلق على إعلان مصر التدخل لدعم دعوى "الإبادة الجماعية" ضد اسرائيل    صبرا ال الحداد    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    عدن.. احتجاجات غاضبة تنديدا بانهيار خدمة الكهرباء لساعات طويلة    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    استئناف إضراب نقابة عمال شركة النفط بمحافظة شبوة    الأمم المتحدة تعلن فرار مئات الآلاف من رفح بعد أوامر إسرائيل بالتهجير    المبعوث الأممي يصل إلى عدن في إطار جولاته لإستئناف مفاوضات السلام مميز    مبابي يطارد بيريز في احتفالية الليجا    خبير اقتصادي: قرار مركزي عدن بنقل قرات بنوك صنعاء طوق نجاة لتلك البنوك    كوابيس كشفت جريمة مرعبة: فتاة صغيرة تنقذ نفسها من القتل على يد شقيقها والامن يلقي القبض على الاب قاتل ابنه!    تحت إشراف مركز الملك سلمان.. «البلسم»تحتفي بفريقها بعد إجراء 191 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية ناجحة في الأسبوع الأول من الحملة الطبية باليمن    فشل ذريع لكريستيانو رونالدو السعودي.. كيف تناولت الصحف العالمية تتويج الهلال؟    بالصور.. قاعدة الدوري الأمريكي تفجر غضب ميسي    "أطباء بلا حدود" تنقل خدماتها الطبية للأمهات والأطفال إلى مستشفى المخا العام بتعز مميز    بمشاركة «كاك بنك» انطلاق الملتقى الأول للموارد البشرية والتدريب في العاصمة عدن    إب .. وفاة أربع طفلات غرقا في حاجز مائي    مراكز ومدارس التشيّع الحوثية.. الخطر الذي يتربص باليمنيين    التوظيف الاعلامي.. النفط نموذجا!!    المركز الوطني لعلاج الأورام حضرموت الوادي والصحراء يحتفل باليوم العالمي للتمريض ..    مصرع وإصابة 20 مسلحا حوثيا بكمين مسلح شرقي تعز    وفاة أربع فتيات من أسرة واحدة غرقا في محافظة إب    لهذا السبب الغير معلن قرر الحوثيين ضم " همدان وبني مطر" للعاصمة صنعاء ؟    لو كان معه رجال!    مصادر سياسية بصنعاء تكشف عن الخيار الوحيد لإجبار الحوثي على الانصياع لإرادة السلام    الحوثيون يطورون أسلوبًا جديدًا للحرب: القمامة بدلاً من الرصاص!    "هذا الشعب بلا تربية وبلا أخلاق".. تعميم حوثي صادم يغضب الشيخ "ابوراس" وهكذا كان رده    عاصفة مدريدية تُطيح بغرناطة وتُظهر علو كعب "الملكي".    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    الدوري المصري: الاهلي يقلب الطاولة على بلدية المحلة    بلباو يخطف تعادلًا قاتلًا من اوساسونا    إطلاق سراح عشرات الصيادين اليمنيين كانوا معتقلين في إريتريا    بعد فوزها على مقاتلة مصرية .. السعودية هتان السيف تدخل تاريخ رياضة الفنون القتالية المختلطة    شاهد:ناشئ يمني يصبح نجمًا على وسائل التواصل الاجتماعي بفضل صداقته مع عائلة رونالدو    أطفال غزة يتساءلون: ألا نستحق العيش بسلام؟    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    اليمن يرحب باعتماد الجمعية العامة قرارا يدعم عضوية فلسطين بالأمم المتحدة مميز    أمين عام الإصلاح يعزي رئيس مؤسسة الصحوة للصحافة في وفاة والده    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    هل الموت في شهر ذي القعدة من حسن الخاتمة؟.. أسراره وفضله    اكلة يمنية تحقق ربح 18 ألف ريال سعودي في اليوم الواحد    في رثاء الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني    بسمة ربانية تغادرنا    بسبب والده.. محمد عادل إمام يوجه رسالة للسعودية    عندما يغدر الملوك    قارورة البيرة اولاً    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستشفى الجذام في تعز .. لا أحد سليم
نشر في المصدر يوم 22 - 08 - 2011


ملف أعده: وجدي السالمي وسلمان الحميدي
تصوير: موسى الحيدري

مستشفى المجذومين.. عنوان يغري الصحفيين، لكنه لابد وأن يذهب بك بعيداً في الاكتئاب حين تكون رجلاً يبحث عن لحظة إنسانية، كثيرة هي القصص.. امرأة تنتظر مدد السماء، طفل يبحث عن مكان وحضن دافئ.
بوسعك أن تتحسس أنفك أو أصابع قدميك بغامر السعادة.. بوسعك أيضاً أن تبكي دون أن تخجل من بكائك.. هذا أكل المرض أنفه، وذاك أكل المرض أصابع يديه أو قدميه. قصص ليست من اختراع الخيال، بل هي حقيقة كما وجدناها في مساحة ضيقة لمجموعة كبيرة من البشر الذين يعيشون في مدينة النور في محافظة تعز.
في زياتنا لها، وجدنا صوراً ممتلئة بالحزن، ومن الصعب إضاءتها.. فنقلنا واقعها ونحن لا نعلم من أين نبدأ وما الذي ستلتقطه عين المصور؟.. من حكايات الوجع والفقر المحاطة بسور عالٍ من الألم والمرض الذي يلف المكان: أيادٍ مبتورة تتخطفك لتهتم بها.. ووجوه مشوهة تناشدك لتعبر عن ألمها.. وقلوب طيبة تدعو لك بالسلامة والستر والصحة مقابل نقل آلامها وأنينها ومعاناتها.. عذاب في الليل من الآلام المبرحة.. وعذاب في النهار من قسوة الرعاية.. هذه هي مظاهر الحياة التي يعيشها مرضى الجذام، وجميعهم يشتركون بالمصائب نفسها، لا بمصائب الجذام فحسب، وإنما بمصيبة كونهم يعيشون خارج الاهتمام الرسمي والاجتماعي وحيدين في مدينة اسمها النور، لكن لا ينعكس هذا الاسم على حياة المرضى القاطنين فيها.. بعض المرضى في عقده الخامس دون جديد في حياته.

ليسوا في انتظار الشفاء أو العلاج لكنهم في انتظار الموت.. فقط تفاصيل تلك الحياة في هذا الملف:

فواكه.. حروف من ألم وحزن
الاسم: فواكه أحمد حسن. العمر: 27 عاماً. المحافظة: ريمة. أرملة لديها طفلة.
على باب قسم الرعاية استقبلنا عبدالحكيم - مشرف القسم - طلب منا أمر الزيارة الصحفية موقعاً من مدير المستشفى، وبعد حوار اقتنع بأن زيارتنا خارج العمل السياسي وفي صلب العمل الإنساني.. تجوّل بنا في عنابر المرضى، الجميع هنا «مأكول» أخذ الجذام من أغلبهم أطرافهم، قادنا «المشرف» إلى عنابر النساء وهو يحكي لنا بصوت متألم حكاية امرأة اسمها «فواكه» أجمع كافة المرضى على قصتها الحزينة.
فواكه، لذيذ اسمها، لكن حياتها مُرة، ليس لها من اسمها نصيب، أُصيبت بمرض الجذام، فطلقها زوجها وتخلت عنها أسرتها.. وجدناها محشورة في زاوية الغرفة على سرير وبجوارها صغيرتها «مريم» التي كانت مشغولة بكسرة خبز في يديها.. بنظرة أمل انتبهت فواكه وطفلتها إلى عدسة الكاميرا التي التقطت صورة مليئة بالحزن من الصعب إضاءتها، وقبلها لملمت حزنها وبؤسها ورتبت نفسها كأنها تريد أن تدخل عبر العدسة الصغيرة إلى الحياة الكبيرة لتعيش من جديد وفي حسبانها أيضاً أن صورة بعدسة عابرة ربما تشفع لها من الموت.
التمت النساء إلى غرفة فواكه وجميعهن يسردن تفاصيل ألمها وحكايتها الحزينة رغم أنهن لسن أحسن حالاً منها.
وقبل أن تحكي قرأت في عينيها حكاية أحزانها وآلامها ومعاناة وحدتها.. فواكه ليست متأكدة من أشياء كثيرة، لكنها متأكدة من أربعة أشياء لا لبس فيها: الأول أنها تبلغ من العمر (27 عاماً)، والثاني أن أخاها حاول التخلص منها وحساها سماً، لكنها عصية على الموت، والثالث أنها أُسري بها ليلاً إلى مستشفى الجذام وفي أحشائها «طفلة»، والرابع أن مستشفى الجذام هو سجنها الكبير الذي دخلت إليه منذ أكثر من 8 سنوات بعد أن أصيبت بالجذام وهي تعلم أنها لن تخرج منها إلا إلى المقبرة.
دخلت فواكه في معارك مع مرض الجذام، وكان سبب طلاقها من زوجها.. وكان في حسبانها أن أسرتها هي بلسم مرضها وستخفف من حدة معاركها مع الجذام.
لكنها قالت وليتها لم تتكلم: «حاول أخي التخلص مني بسبب المرض بعد موافقة أسرتي وجرعني السم»، لكن لازال في عمرها بقية مقدور لها أن تعيشه مع الألم والحزن والمعاناة والعزلة وبعدها أسري بي إلى مستشفى الجذام وتخلوا عني، ولم يبقَ لي سوى الله وابنتي مريم.
يبدو أن الأمراض لن تتيح لها فرصة لتهدأ من أجل أن ترعى طفلتها وتبتسم لها لترى الحياة أو نصفها.. بعد أن تخلصت «فواكه» من مرض الجذام بعد سنوات قضتها في مدينة النور والتي تقبع في قسم الرعاية منه.. دخلت في معركة جديدة مع مرض آخر هو «حالة عصبية ونفسية» سألتها عن كيف تجد نفسها الآن.. فكبت وجهها على الأرض واحتضنت طفلتها ليجيب «عبدالحكيم» بدلاً عنها قائلاً: «فواكه تحتاج إلى عملية للبواسير وهي بحاجة إلى مساعدة إنسانية وخيرية».. النساء من حولها يؤكدن ما قاله «المشرف» ويستجدين بأن نبحث عن فاعل خير ينقذ «فواكه» مما هي فيه بعد أن تخلت عنها أسرتها.
ليس ثمة إنسان أجدر بالمساعدة من هذه «المرأة» التي كانت تعيش مع زوج وأسرة، وكان لها في الطريق طفلة، لكنها في طرفة عين وجدت نفسها تعيش مستهدفة تجتر الألم وتكرر شكواها في كل فرحة متاحة وكثرة الشكوى أوقعت «فواكه» فريسة لأنياب الهم والغم متعثرة من أبسط خطوات حياتها.
هل من رجل يحب الخير ويعشق الجنة يبادر لانتشال هذه المرأة وطفلتها ويمنحها فرصة لتعود إلى الحياة من جديد.

تأييد صالح لصدام حسين أخرج محمد علي من السعودية وإلى الآن لم يرَ أهله.. 20 عاماً من دون زيارة
حاولنا تحاشي السياسة في نقل هذه القصص الإنسانية، إلا أن المريض محمد علي عمر عاد بنا إليها، ولم تقتصر قضية محمد علي عامر على السياسة الداخلية للبلد بل تجاوزت الحدود بتأشيرة حرب.
تجاوز عمر محمد ثمانين عاماً، ولكن ذلك لا يكفي لإنهاء الحياة، وإنهاء القصة أيضاً بخاتمة واحدة مؤداها ومنتهاها «الطفح الجلدي».
بسبب الجذام «الطفح الجلدي» ترك الحاج العمل مع أن رغبته وعزيمته تدعيانه للعمل ولو من باب إعالة نفسه، لكن قانون البلد الذي يعمل فيه يجبره الدخول إلى المستشفى لاستئصال شأفة المرض خصوصاً وأن المرض في بدايته.

سألنا الحاج محمد أين كنت قبل الآن؟. بعد تكرار السؤال عليه تبين أن محمداً كان يعمل في السعودية، وبعد أن داهمه «الجذام» دخل إلى مستشفى في الرياض وما هي إلا أشهر قليلة حتى تم تزفيره إلى اليمن.
عن أسباب ترحيله من السعودية تحدث محمد عامر: «خرجت بسبب الحرب التي حصلت بين العراق والكويت»، التبس السبب ولم نفهم العلاقة بين الحرب وبين الحاج محمد، مما جعل المريض يطلق تنهيدات الألم من جوف القهر موضحاً: «بعد تأييد علي صالح لصدام حسين أثناء غزو العراق للكويت في ذلك الوقت أخرجنا الدكاترة من المستشفيات السعودية إلى المطار قبل أن نصل إلى هنا».. هكذا تحدث المريض محمد وبكل قواه.

هي السياسة التي تدخلت في حياة محمد حسب الاستنتاج الذي يستخرجه أدنى إنسان عندما يجلس مع هذا الإنسان الذي يتكلم ألماً بحرقة نياط القلب.
المرض ابتلاء وابتلاء العزم الطويل انهيار للفرد عندما يكون على مشارف الضيق، فكيف إذا كان الضيق لصيقاً للفرد ك«محمد علي عامر» بالنظر إلى سجل زيارة أسرته التي لم تطمئن عليه مرة واحدة «لا يطمئن أحد عليّ إلا الله» كما يقول.
قد يكون لأهله عذر ولكن ليس بذلك الشكل.. هو من محافظة حجة وكافة أسرته في السعودية وحاله «مبسوط» كما تحدث وبساطته قسرية؛ لأنه توقف عن العلاج «ليشفى» وأهله بعيدون عنه فأين يذهب غير قسم الرعاية في المستشفى لتتشكل بساطته؟

لا أحد معي.. أنا على الله وأتمنى أن أموت.. لا تاريخ هنا.. التاريخ أنا
الاسم: محمد أحمد سعيد. محافظة تعز. مديرية الحجرية. العمر 80 عاماً.. وحيداً
الحاج محمد، أحد المرضى الذين يقيمون في قسم الرعاية في مستشفى الجذام، ذلك المرض الذي ارتبط في عقول المجتمع بالعزل والبعد الاجتماعي حتى أصبح المجتمع يخاف من المصاب بالمرض أكثر مما يخاف عليه.
محمد الذي يناهز ال80 عاماً يمتد جسده على سرير في غرفة مزحومة بالمرضى استغرق وقتاً طويلاً من أجل أن ينهض ليسرد ألمه ويطلب الاهتمام به، جلس بعد محاولات عدة بجسمه المرتعد وصوت يتقطع مع المرض الذي يعاني منه والذي عطل أطراف جسده السفلى حتى أصبح عاجزاً عن الحركة يقول: (أتمني لو أستطيع الخروج سأخرج بحثاً عن الحاجة).
أخذ الله منه زوجته وأولاده وأعطاه مرض الجذام ليعيش معه ما تبقى له من العمر، لكنه ورغم سنه الكبير ومرضه القاسي تبقى روحه المعنوية عالية.. كان يسرد لنا معاناته ونفسه حاضرة تملأ الغرفة التي يمتد فيها ويطلق ابتسامته التي قيدها الدهر.
عند حديثه عن زيارة ما تبقى له من الأهل بدأت نبرة صوته تختفي وبدأ يبتلع كلامه ويسحب تنهيداته من قعر الأمنيات بإطلالة وجه أحد أقاربه الذين لم يتكرموا بزيارته ولو مرة في حياة مرضه.
تمنى الحاج محمد الموت وذرفت دموعه وهو يقول: «أنا على الله أنا تعبت وأتمنى أن أموت»، وعندما سألته عن تأريخ دخوله المستشفى قال: «لا تاريخ هنا.. أنا هو التاريخ» أقيم منذ 40 عاماً.

سمعة.. لاتقوى على النهوض
الاسم: سُمعة بنت فارع أسعد. محافظة إب - حزم العدين.
في مستشفى الجذام الكثير من المرضى مأكول، هذا أكل المرض أصابع يديه أو قدميه وثانٍ بترت رجله من الخاصرة وثالث فقد كفيه.. الجميع هنا مأكول لا أحد سليم..
الحجة سمعة واحدة منهم شواها المرض وغيب ملامحها وذهب بكفيها ورجليها فأصبحت لا تقوى على النهوض.
منذ ثلاثين عاماً وهي قعيدة في قسم الرعاية تعيش يوماً واحدة في السنة، حيث يتجلى هذا اليوم مع إشراقة شمس العيد، الذي تعده فرحتها الوحيدة، فيه تطرد أحزانها وتنسى حالة مرضها مؤقتاً بزيارة أخواتها لها في هذه المناسبة، بعدها تعود لتموت في صراع مع الألم والسرير وتعود لتتصارع مع التشاؤم وتتلذذ بالمواجع وبسط مظلة الكآبة على سريرها.. تعاني واقعها المؤلم وتحاول تجاوز عثرتها ومحنتها وأمراضها القاسية.. تتأمل كفيها وتغسلها بدموع الحزن.. مرض الجذام حرم “سُمعة” والكثير من المرضى العيش باطمئنان وسلب منهم أحلامهم وأبناءهم وأملاكهم، نبذهم أهلهم ومجتمعهم، وترك في نفوس وأجساد من أُصيبوا به ذكرى مؤلمة.
في مشفى محافظة تعز، بزغ نور الأمل في قلوبهم من جديد، وشاءت الأقدار أن تجتمع اليمن كلها في مكان واحد لتموت هناك.
«شاقي» باليومية بحاجة إلى لفتة كريمة وسريعة
من هيئته «رجل ثلاثين»، وماذا يفيد العمر إذا كان «الجذام» لا يفرق بين صغير أو كبير؟! اسمه: مقبل غالب علي من المنطقة المعروفة بين الناس ب«جنة المناطق الوسطى» (عُدين إب).. ترك مقبل غالب تلك الجنة التي لا ينعم بها بالشكل المطلوب؛ إلا أنها كفلت له توفير ما يسد به رمقه وأسرته بالكد داخل المزارع قبل أن يصاب بمرض الجذام الذي جعله «شبه حبيس» داخل ذلك المشفى في مدينة النور حسب تسميتها على الرغم من ظلامها الدامس بالنسبة للمرضى.
قبل ما يقارب من تسعة أشهر دخل مقبل المستشفى تاركاً خلفه زوجة وأربعة أبناء، هم حياته التي سخر نفسه لها والكد من أجلها لإدخال السعادة والمسرة على هذه الحياة.
بالنظر إلى تاريخ دخوله المستشفى يتأكد أن مقبل غالب في بداية مرضه وبالإمكان التخفيف عن معاناة ستكون طويلة جداً إذا لم تتوفر العناية اللازمة لحالة مقبل، وحقيقة العناية اللازمة تقتصر على الجانب المادي لتوفير الأدوية والعلاجات واستمرارية متابعة الحالة.
الوضع المادي لمقبل صعب جداً حسب حديث الرجل، وحالته تقتضي المساعدة حسب حديث المرضى المجاورين له، وكذلك أحد المشرفين الذي أوصى بضرورة نقل حالة الرجل إلى من يحمل بداخله الشفقة والرحمة وبإمكانه إدخال السعادة على الآخرين.
لم يعد يعمل مقبل أي حاجة، مع أنه قادر على الحركة، لكن هناك عوائق كثيرة تحول بينه وبين حمل شيء ما في يده التي بدأت تتجعد بل وتتآكل، قد يقرر الأطباء بترها إذا اقتضت الضرورة حفاظاً على بقية الجسد.. قال مقبل غالب :«كنت أشتغل باليومية (شاقي) وأعول زوجتي وأولادي الأربعة».
وأضاف: «الآن عمي يكفل أسرتي». هذا المريض محظوظ أكثر من غيره؛ لأن زوجته وقلة من أقاربه يزورونه أحياناً وقد يكون ذلك في البداية فقط إن انتشر الطفح ولم يجد من يضع له النهاية لا قدر الله.. «لا أتمنى غير العافية.. وأن يلتفت رجال الخير والجهات المختصة إلى مرضى الجذام» كما يقول مقبل.

فقد«كلتا يديه ورجليه وكذلك نور عينيه».. لا يملك سوى الراديو.. يصل إلى الحمام حبواً ولا يجد ماء
علي ناجي من أبناء محافظة إب، حزين، مبتور القدم، جاثم المرض على أنفاس هذا الرجل الذي يكتفي بتسلية نفسه بالاستماع إلى الراديو والتنقل بين إذاعة وأخرى بما تبقى من رحاحة يده، فقط ذلك أن الإذاعة لا تحتاج إلى الكثير من الجهد للوصول إلى إذاعة صافية والرسو على ذبذبات إذاعة خارجية.
ابتسم قليلاً من حيائه عندما أخرج رجليه ويديه للتمعن في حالته، أما عيناه فقد اكتفتا بالإغماض مع أنه لا يرى شيئاً من حوله، ربما أنه لا يملك شيئاً حتى يراه غير ذلك الراديو الذي يراه بأحاسيسه، فيتنقل بين إذاعات القرآن والأحاديث إلى الاستماع إلى نشرات الأخبار «دون صورة» وتشكيل خيال واسع الأفق عن الوقائع التي تحدث ويسمعها من مختلف بقاع العالم عبر المذياع.. كغيره من المرضى يشكو علي ناجي من سوء التغذية وكذلك من انقطاع المياه التي تحول بينه وبين أداء الفرائض.. ويشعر بالأسى عندما يصل إلى الحمام حبواً ولا يجد الماء، كل هذا في رقبة المؤسسة العامة للمياه.

جندي يبحث عن الماء
كان للدليل الذي تجوّل بنا داخل أروقة المستشفى لنقل عذاب مرضى الجذام إلى الناس، قصة تستحق الرواية تبدأ بالأمنية الطلبية التي ظل يكررها من حين استقبلنا في الداخل إلى أن غادرنا والتقط له المصور صورة في الخارج قريبة من «العداد المخلوع»: «أتمنى أن يلتفت رجال الخير لمرضى الجذام خصوصاً التغذية وأهم شيء العداد» كانت تلك آخر جملة تلفظ بها الجندي والمشرف عبد الحكيم سالم علي.
يعمل عبد الحكيم من عام 2001م، بدأ عمله متطوعاً «دون راتب» لمدة ثلاث سنوات بعدما تعاقدت معه الإدارة للعمل في المستشفى..
عن مجيئه يقول عبدالحكيم: كنت مريض «جذام» فأتيت إلى هنا (المستشفى) وهربت وعدت المرة الثانية وهربت أيضاً وفي المرة الثالثة رأيت أن هناك حالات متدهورة أصعب مني فقررت أن أساعد المرضى بما هو متاح لي..
عبدالحكيم من أبناء محافظة عدن متزوج ولديه بنتان، تزوره البنت الكبرى كثيراً وآخر مرة زار أهله في عدن قبل سنتين.
مازال أثر الجذام على يدي عبدالحكيم، لكنه قد شفي والآن يمارس حياته الطبيعية بشكل عادي.
أكثر ما يؤرق هذا الجندي هو انقطاع المياه عن مئات المرضى الذين صاروا الآن يحاربون المرضى ويحاربون التصرفات الحمقاء المتمثلة في مكابدة المعيشة الصعبة نتيجة مشيئة الجهات المختصة.
يؤكد عبدالحكيم أن المياه كانت موجودة قبل أن نتفاجأ بقيام المؤسسة العامة للمياه بقطع المياه بل و«قلع العداد» بحجة أن وزارة الصحة لم تدفع فاتورة المياه التي بلغت في آخر شهر لها «مائتي ألف ريال».

ملعقة رز عشاء وحبة روتي سحور
الجوع يعصف بالمرضى، والمرضى مصابون جلدياً، أما معدهم فصحيحة مائة بالمائة.. بهذه الكلمات المشبعة بالتعبير تكلم أحد المرضى ملخصاً حال التغذية بجملة.
بعد مراجعة المشرفين انتابنا شعور بالفاجعة؛ لأن هؤلاء المرضى الطيبين قد ينقرضون جوعاً يجعلهم يتصارعون مع السقم وآلامه.
تخيلوا مثلاً أن وجبة السحور رغيف خبز واحد (روتي) وواحد شاي، إضافة إلى قطعة جبن مثلثة صغيرة الحجم. وأن وجبتي الفطور مع العشاء «ملعقة رز وملعقة طبيخ وواحد روتي» لا تكفي حتى طفل حديث الأكل فرحاً بأسنانه «حديث الطلوع».
انظروا إلى حجم التغذية وبالجرام:
- 120 جرام رز لكل مريض
- 150 جرام طبيخ لكل مريض
- رغيفي خبز (روتي) وقطعة جبن مثلث لكل مريض على مدار اليوم.

تسعة أشهر بلا ماء!!..
هذه خلاصة المعضلة المتعلقة بالمياه والتي يشتكي منها كافة المرضى..
قد يكون التكرار مملاً، خصوصاً أن هذه المشكلة ذكرت في أكثر من قصة، لكنها الضرورة الملحقة التي تستدعي لفت الانتباه..
تسعة أشهر وهذا الكم الهائل من المرضى بلا مياه بعد أن قامت مؤسسة المياه بقطع الماء عن مستشفى الجذام بحجة أن وزارة الصحة لم تقم بدفع قيمة الفاتورة الأخيرة والمقدرة بمائتي ألف ريال.
ما دخل المرضى؟! كيف ل«الجانب المخول» أن يتركوا مريضة أو مريضاً مبتوراً قدمه يحبو إلى الخارج «ليستلقي بالسطل» الماء من السماء إذا نزل المطر.
رفعت مذكرة إلى مؤسسة المياه التي قلعت العداد وإلى الجانب الرسمي في وزارة الصحة لكنها مرت مرور الكرام ولم يهتم بها أحد.
كذلك رفعت مذكرة أخرى إلى بعض رجال الأعمال لكن لم يعرها أحد.. نحن نرفعها إلى من يقدرها!!..

هذه المرأة بحاجة إلى من يستمع إليها..
يتبادر إلى العقل بأنها امرأة طويلة وعريضة تمارس صلاحيتها في المطبخ وتسطو على النساء اللواتي يتجمعن حولها لأخذ «ملعقة رز ومثلها طبيخ وقليل من السلطة» لأن المنصب «مسئولة المطبخ» مهول ظاهرياً لكنها عكس ذلك تماماً..
لم تتبوأ هذا المنصب لجاه أو مال أو نسب بل لسبب موجع وهو أن «سنبلة هادي» أقدم مريضة داخل المستشفى، حتى أنها لم تعد تعرف كم عدد السنوات التي قضتها داخل المستشفى.
حسب تقدير سنبلة فإن الزمن الذي قضته هناك يقارب «خمسة وثلاثين عاماً» أو يزيد.. هذه السنوات التي مرت جعلتها محل ثقة الإدارة واحترام النساء المرضى.. تحدثت سنبلة عن حال المطبخ: كل ما في المطبخ رز وطبيخ وسلطة «لا خضروات ولا حاجة ثانية»..
بغصة وحزن تنقل الحجة سنبلة معلومة مهمة بالنسبة لمرضى الجذام: اقطعوا اللحمة بالمرّة؛ لأن اللحمة حق الحكومة لها أربع سنوات مقطوعة، والآن في فاعل خير يدي لنا لحمة سوبر «بقراطيس» يوم الجمعة.
وتشتهي نساء «مرض الجذام» إلى طعم جديد تتذوقه اللسان التي تعودت على طعم واحد منذ أربع سنوات، في الوقت الذي يهنأ فيه الكبار بإلقاء النظر على سفرة رمضان الطويلة..
سنبلة ورفيقاتها يأملن بتغيير لحم السوبر التي تأتي يوم الجمعة إلى دجاج فهن بحاجة إلى «طعم مرق الدجاج في رمضان» كما تقول سنبلة قبل أن تتدارك جملتها الجريحة تلك بجملة تشبهها!! اللي معها حاجة «فلوس» تزود نفسها واللي ما معها شيء الله معها..
معضلة أخرى تنطقها سنبلة «الماء مقطوع من قبل مؤسسة المياه».
وكل واحدة تقوم بشراء دبة ماء للشرب، جاء المطر وكل واحدة خرجت بالبالدي حقها لحجز ما يمكن حجزه من ماء السماء..

لمساعدة نسوة مستشفى الجذام قامت وزارة الشئون الاجتماعية بإنزال لجنة شلوا الصور وسجلونا وبعدين قالوا سقطت الأسماء.

الفقرة الأخيرة
هذه الفقرة لها العديد من الصور..
قصصهم مؤلمة وحياتهم بائسة في محطة عذاب لم تنتهِ.. بعضهم بدأ بهم الأمر بالوصول إلى تعز للعلاج وانتهى بهم الأمر في البقاء الدائم بين حيطان قسم يسمى «الرعاية الاجتماعية»... مرضى ينتظرون الموت.
قبل عامين قمت بزيارة عابرة لمستشفى الجذام.. ويوم الخميس الماضي زرته في مهمة صحفية فوجدت المرضى هم أنفسهم.. فقط زاد عددهم وتوسعت معاناتهم.
لا جديد في المستشفى خاصة في القسم الذي يطلق عليه «الرعاية الاجتماعية»، الأشخاص الذين يرقدون في هذا القسم هم من سيغادرون المستشفى محمولين على الأكتاف، والسبب يعود إلى قصة مرضهم والعزل الاجتماعي.
المشرف على هؤلاء المرضى تحدث وقال: إن معظم هؤلاء المرضى وصلوا إلى المستشفى مطرودين من قبل أسرهم بسبب إصابتهم بمرض الجذام.
قصصهم مؤلمة وحياتهم بائسة في محطة عذاب لم تنته، بعضهم بدأ بهم الأمر بالوصول إلى تعز للعلاج وانتهى بهم الأمر في البقاء الدائم بين حيطان المشفى.
يصارعون المرض والعزل الاجتماعي وسط أجواء مشحونة بالآلام بعيداً عن طقوس الحياة الطبيعية، لم يعد مرضى هذا القسم - الذين يبدون في الصورة واضحة - يخضعون للعلاج كما كان في بداية وصولهم.
لقد خضعوا للعلاج منذ فترة ونقلوا إلى هذا القسم للبقاء الدائم، البعض منهم من أوصلته أسرته وتركته هنا، والبعض الآخر وصل مطروداً رفضت أسرهم العيش معهم بسبب تخوفهم من نقل المرض إليهم.
محمد أحمد النجار - من محافظة الحديدة – من قاطني المستشفى منذ ستة أشهر حكى قصته، أبناء منطقته يرفضون قبوله بالعيش معهم، وقد زاره ابنه وابن أخيه مرة، لكنه يقول: منعتهما عن زيارتي بسبب غلاء المعيشة وتأزم الأوضاع.
أما فاطمة سالم أحمد - من محافظة إب - غادر الجذام جسدها، لكن دموع الألم المختلطة بدموع الحزن لم تتوقف طوال وجودها في قسم الرعاية، تلوح بيدها باتجاهنا، وتقول: «أني بحاجة لبنسلين لعيوني»، وأضافت: «أنتم توزعوا فلوس» وقفنا ننتعل الأرض حرجاً عاجزين على مساعدة فاطمة وأخواتها، لكن بمقدورنا أن نوصل صوتها عبر الأحرف لعل فاعل خير يقرأ ويستجيب لها.
مثلها فاطمة قاسم حسن - من محافظة تعز - مديرية الوازعية، تتحد مع سابقتها بشأن الألم والمرض، فهي تخلصت من الجذام وبقت تتصارع مع كيس دمعي أقض مضجعها وسرق النوم منها، وبصوت المتألم قالت: «قولوا لهم أني بحاجة إلى عملية لعيوني لا يوجد معي أحد».. ونحن بهذا الملف قلنا لهم ويا ليتهم يسمعون.
أما المسن محمد لطف - من محافظة إب - منذ ثلاثة عقود في هذا المستشفى يمتد على سريره وصلنا إليه فنبهه المشرف بأن يلتفت إلى الكاميرا فقال: توقف عن تصويري، فأنا لست مريضاً.. قالها: وأصابعه مبتورات وفاقد لعينيه.
مقابله يجلس الكهل ناصر الحبشي - من محافظة إب - أفقده الجذام عينيه وعندما سمع حوارنا مع المرضى بجواره لملم نفسه وقعد وبيديه قرصين من الروتي أي وجبتي الإفطار والسحور قال:«لا ماء لا تغذية لا رعاية لا اهتمام ننتظر الموت فقط».
في هذا القسم مئات المرضى ينامون مثقلين بهموم تكاد تحول المستشفى إلى مسرح الحياة المتقلبة لقد قذف بهم الدهر وتقلباته إلى حياة دونها الموت.

كلمة وجع أخيرة
مآسٍ كثيرة تمشي على قدمين أحياناً، وتحبو فوق حصى المعاناة الشديدة وتنام على سرر مفروشة بالأسف داخل مبنى مسور بالأمنيات الغائرة بالدمع!.
مستشفى الجذام بلد لا يقل وصفاً عن بلد كبير عائمة في السياسة هي اليمن، ومرضى الجذام أبناء كارهون لبلدهم المستشفى، ولا ملجأ لهم.. عليهم تحمل مشقة الداء حتى يحين موعد لا مسمى له.
القصص التي بين أيديكم والمعلومات الواردة في هذا الملف ليست سوى نزر يسير وغيض من فيض يتدفق بالكثير من الوجع.. ولكن الوقت جعلنا نستعجل نشر الملف الذي بين أيديكم لتدارك كرم رمضان من القادرين على عمل الخير لهؤلاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.