بعد خمسين عاما من عمر ثورة سبتمبر ثار اليمنيون مجددا رافعين أهداف الرعيل الأول من الثوار وصورهم التي تختزل مراحل كفاحهم الطويل، فالشهيد محمد محمود الزبيري ناضل منذ انطلاق شرارة ثورة سبتمبر حتى يوم استشهاده من أجل القضاء على أدوات النظام السابق (الإمامي) -إن جاز التعبير- التي استمرت تدير (اليمن الجمهوري) وهو ما لم يكتمل. لقد حاول الشهيد الزبيري من موقعه كوزير للمعارف بعد الثورة في تحقيق حلم الثوار بانتشال اليمنيين من براثن الجهل والتخلف الذي ضرب أطنابه على عتبات عقولهم لكن المشكلة كانت في هرم السلطة فالنظام الذي قامت ضده الثورة نجحت في إزاحة الأسرة الحاكمة وغيرت وجه النظام الحاكم من ملكي وراثي إلى جمهوري، لكن عملية التغيير وإن جاءت بوزراء الثورة ظلت شكلية ولم يحدث التغيير العميق الذي يضمن ديمومة التغيير ونجاحه. وأورد المؤرخ عبدالملك الطيب في أحد كتبه رسالة موجهة بعد ثورة سبتمبر من الزبيري للرئيس السلال يستنكر فيها تعامل الأخير مع البلد كملكية خاصة والنكوص عن أهداف الثورة. وحين فقد الزبيري الأمل في استجابة الحكومة غير المستقرة حينذاك لمطالبه بتجسيد أهداف الثورة واستيعاب ضرورات المرحلة غادر صنعاء مستنجدا بالجمهوريين لإنقاذ ثورتهم لكنه حلمه بتر في منتصف الطريق. ومن ذلك الحين دخل اليمن (الشمالي حينها) مرحلة صراع داخلي امتدت ثمان سنوات لم تشهد البلد لحظة استقرار فيها وسقط خلالها عشرات الآلاف من الضحايا، ذلك الصراع تجسد في مشروع عائلي قديم يقاوم من أجل استرداد ملك ضائع ومجد مهدور ومشروع جمهوري جديد يناضل من أجل البقاء والديمومة مع الأخذ في الاعتبار أن مساحة الصراع سحبت نفسها على القوى الإقليمية والدولية، فالمعسكر الاشتراكي الذي تزعمته مصر وقف إلى جوار الجمهوريين بينما المعسكر الرأسمالي بزعامة السعودية ساند المملكيين. ولسنا هنا بصدد الحديث عن انعكاسات هذا التقاسم بل لاستحضار التاريخ القريب لاستشراف واقع الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي دخلت قسرا مربع الوفاق الذي يعد خصوصية يمنية خالصة، وكل الأطراف اليمنية التي حاولت الانفراد بالحكم والاستئثار بالثروة غادرت مواقعها مجبرة بفعل مقاومة شعبية أيا كانت طبيعة هذه المقاومة. ويؤكد الواقع أن اليمنيين أكثر الشعوب تسامحا ولديها القدرة على التصالح والالتقاء بعد الاحتراب والخصومة، فالمصالح الوطنية التي جرت في عام 1970 بين الجمهوريين والملكيين وأفضت إلى مرحلة استقرار سياسي توجت بسنوات الشهيد الحمدي لم تلبث أن انتكست مع طول فترة الرئيس السابق علي عبدالله صالح ومحاولته الاستئثار بكل شيء لصالح أسرته، فأحلام الرجل كانت تضيق بمرور الوقت إلى الدرجة التي وجد نفسه فيها أمام طوفان شعبي قضى على كل طموحاته لكنه لا يزال يقاوم. وإن كان محمد البدر ومعه بقايا نظام أسرته استطاع الصمود ثمان سنوات مع عدم إغفال الظروف الموضوعية حينها والمتمثلة في الدعم الإقليمي الذي كان يضخ الحياة في شرايين أتباعه إلا أنه كان يتعلق ببصيص أمل في استعادة مملكته التي لم تدم طويلا بعد رحيل والده، وما دام هناك أطراف تساند مثل ذلك التمرد فليس من الذكاء رفضها على الأقل لغرض الانتقام وإعاقة التحول الذي كان يبشر بكشف عورة النظام السابق وفضح ممارساته وانتهاكاته لآدمية اليمنيين. وهذا يقود للحديث عن الوضع المصاحب للثورة الشبابية الشعبية السلمية فموقف المجتمع الإقليمي والدولي موحد في الحالة اليمنية وهو أمر إيجابي على عكس الوضع السابق، وليس بالضرورة أن تتطابق الظروف الموضوعية المحيطة بالثورتين فالجيش اليمني اليوم منقسم وتدير أسرة الرئيس السابق أهم وحداته من حيث العدة والعدد والتدريب وهنا مكمن الخطر فانقسام الجيش الذي يمتلك القوة على بعضه قد يدمر اليمن ويحوله إلى قوى متناحرة إن لم يتم السيطرة عليه وإعادة توحيده. إن البطء في عملية التغيير واستمرار أدوات النظام السابق في السلطة وبقاء الجيش مفككا بالإضافة إلى التمرد العسكري على قرارات الرئيس الانتقالي الذي يقوده من حين لآخر أطراف قريبة من علي صالح لا تدع مجالا للشك بضرورة الإسراع بتوحيد الجيش والأمن تحت قيادة واحدة وإزاحة أطراف التوتر وفقا لما نصت عليه المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، كما إن تأخير عملية التوحيد كفيلة بتعقيد الوضع وتأزيم الأمور. ويشير التمرد الأخير الذي قاده اللواء الثاني حرس جمهوري ومحاصرة أفراد من الحرس لوزارة الدفاع على أن تقسيط قرارات الرئيس التي تستهدف توحيد الجيش والأمن تحفز المحسوبين على عائلة الرئيس صالح على التموضع وترفع من درجة الخطر لديهم، وهو ما حصل بالفعل عوضا على ترك المواقع العسكرية بأسلحتها نهبا لجماعات العنف والتطرف، ليس ذلك وحسب بل تسريب الأسلحة المتوسطة والثقيلة إلى الجماعات المسلحة وبيعها في الأسواق الشعبية وتوزيعها على الموالين والمنتفعين وهو ما يبشر باتساع رقعة العنف كنتيجة طردية لانتشار السلاح وسهولة الحصول عليه. ومع استحالة العودة بالزمن إلى الوراء على الأقل فيما يتعلق بعائلة صالح، تبذل القوى المضادة للثورة قصارى جهدها لإعاقة عملية التحول وإفشال المرحلة الانتقالية، وتبدو تلك القوى مستميتة في تحقيق أهدافها بتقسيم اليمن ولكل طرف منها نصيب من هذه الأهداف، ومع دخول متغير إيران بقوة على الحالة اليمنية واستقطابه لتلك القوى المتناقضة التي يجمعها هدف تفكيك اليمن وتجزئته يصبح التحدي أكبر أمام القوى الثورية المطالبة باستمرار الفعل الثوري والضغط باتجاه الحفاظ على اليمن موحدا وآمنا. وتستفيد القوى المضادة للثورة من حجم الإمكانيات التي تتدفق عليها والتي نهبتها من خزينة الدولة وتوظفها في سبيل إفشال الحوار الوطني وإعاقة عملية الهيكلة، فالمتابع للآلة الإعلامية الضخمة التي تتقاسمها تلك الأطراف يلحظ بوضوح تضافر تلك الوسائل والجهود وتماهيها في خدمة المشروع التدميري، ولا يستطيع المراقب التفريق بين وسائل إعلام العائلة وبين الوسائل المحسوبة على جماعات العنف والتطرف التي تتواجد في شمال اليمن وجنوبه. فإعلام العائلة يتبنى الخطاب الانفصالي المتطرف كما يتبنى الخطاب الطائفي المناطقي، وبالمثل تعمل وسائل إعلام الأطراف الأخرى، لنجد في نهاية المطاف القيادي في المشترك الدكتور محمد عبدالملك المتوكل يروج لمسألة تبني الرئيس السابق لخيار الدولة المدنية الديمقراطية وكأن الأخير لم يجرب 33 عاما ولم يحصل على فرصته كاملة في إثبات حسن نواياه تجاه مصطلح (الدولة المدنية) الذي أصبح فزاعة يستخدم لتبرير المواقف المناوئة للثورة. ومع إفراط المتوكل في الحديث عن مسألة التوازن -وهو أمر حيوي في شقه السياسي- يضطر للانتقال من مربع الثورة السلمية إلى مربع العائلة مؤيدا للابقاء على توازن الرعب المتمثل في انقسام قوى الجيش والأمن فهو لا يؤيد عملية توحيد الجيش قبل الحوار الوطني الشامل، ويبدو أن الدكتور -المدني جدا- يفهم التوازن من خلال التمرد على قرارات الرئيس هادي واقتحام وزارة الداخلية ومحاصرة وزارتي المالية والدفاع والمستقبل ملئ بالمفاجئات. إذن فالثورة التي حققت هدفها الأول بإسقاط رأس النظام مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالعمل على استكمال تحقيق أهدافها كاملة، ويمكن القول أن الزخم الشعبي المساند للثورة السلمية يعد عاملا إيجابيا يعزز من فرص نجاحها وهو ما ينبغي التركيز عليه واستثماره.