النقد فن في ذاته، وهو أيضاً علم يدرس في كثير من المدارس العربية والإنجليزية وغيرها، ويتضح معنى النقد من خلال معرفة مهمة الناقد، وهي توضيح وشرح وتفسير الحقائق، ولا علاقة له بالنتائج، سواء كانت سلبية أو إيجابية، وهذا هو النقد الموضوعي الذي تتصف به الدراسات الأدبية خصوصاً والإنسانية عموماً، وكذلك الدراسات التطبيقية في الجانب النظري منها، وغالباً ما يكون النقد للمواضيع والمواقف والسلوك للشخصيات العامة في مجال عملها مع تجنب «شخصنة» المواضيع أو التلميح للحريات الخاصة، فهذه تخرج الناقد من عمله إلى مستوى آخر أقرب «للسوقية» منه للنقد الموضوعي الحصيف. كما أن الناقد يتصف بمواصفات تؤهله لهذا العمل الإبدعي البحت الذي نحتاجه لإنجاح وإبراز الجوانب السلبية والإيجابية من الأعمال والمصنفات التي تهم الجمهور المتلقي، يحتاج الناقد أن يكون قد وصل إلى مرحلة معينة من التعليم والتأهيل المستمر لقدراته، فالنقد يبدأ في مرحلة متأخرة من تلقيه للعلم في مراحله المتقدمة، ويحتاج الناقد إلى خلفية ثقافية عامة في مجالات متنوعة، على أن يكون متخصصاً في فن من الفنون وعلم من العلوم، حيث يركز جل اهتمامه في مواضيعه النقدية، والناقد على كل حال هو منتمي لدين ولفكر، هذا الانتماء يقوي إيمانه بما يقوم به لمصلحة دينه وأمته وفكره، وكذا قدرته على التحمل مطلوبة، واستعداده النفسي والذهني للأخذ والرد والقدرة على الحوار والتلقي والعطاء، وألا يتعصب لجزئية مهمة تاركاً الكليات والأساسيات الأهم. للنقد شروطه وأهمها الموضوعية، والتي تقتضي وضع الحالة محل النقد بسلبياتها وإيجابياتها وإبعاد ذاتية الناقد وعواطفه عن عمله النقدي حتى لا يؤثر فيه، عندما تكون ناقداً اترك رأيك الشخصي وعاطفتك ووجدانك بعيداً، لتكون منصفاً ضع كل شيء في نصابه، ولا تجتهد في ترجيح الأخطاء على المميزات، لتكون ناقداً عادلاً محترماً التزم المصداقية والإنصاف في طرحك، ما سوى ذلك هو كشف عن هوايتك وحقدك وغلك، ومن ثم سقوطك أخلاقياً أمام الناس وأنت تظن نفسك ناقداً ولست سوى حاقد، ولن يقبل منك أحد ما تقول. الأسلوب الجيد للنقد لا يتأتى لأحد حتى يمارس النقد لفترة طويلة تكسبه مهارة أسلوبية تميزه عن غيره من النقاد الموضوعيين، فيشترك العديد من النقاد في الموضوعية، لكنهم يختلفون في الأسلوب، وكل ومهارته وأسلوبه في إيصال رسالته النقدية للجمهور المتلقي. من شروط النقد أيضاً الصدق والأمانة العلمية في النقل، وعدم التلفيق والتحريف والتضليل، والبعد عن التشهير والإيغال في الخصومات، والإخلاص للفكرة والابتعاد عن ذاتية الناقد وإظهاره لنفسه على حساب الموضوع «لو لم أكن أنا الناقد فالموضوع لا يستحق النقاش»، كما أن استحضار الأدلة مقدماً على غيره في النقد، فلا نقد بناء على تخمين أو تخرص، الدليل العلمي الموثوق المتفق عليه والمشهور مقدماً على المغمور وغير المعروف. هناك فروق واضحة بين النقد وبين ما سواه من التشهير والخصومة والسب والقذف والتحريض والتشويه والتجريح، ويتضح ذلك بسهولة للقارئ الواعي المطلع على وسائل الإعلام والمجلات الأدبية والعلمية، فما يقال عنه نقداً هذه الأيام على صفحات الفيس بوك والصحف الصفراء ومروجي البضائع الفاسدة هو جرائم يعاقب عليها القانون، وهو بعيد عن الأخلاق والقيم. علينا تعلم النقد وفنونه وكيفية توصيله بأسلوب مميز، ومن ثم ممارسته في المواضيع التي تحتاجه، والنقد يُعنى بإبراز جوانب الاستحسان والنقص على السواء، وليس حصر الأخطاء وتتبع الهفوات والعيوب والبحث عن كل منقصة ولصقها بمن نكره، فكثير من المقالات التي تنسب للصحافة والكتابة والمنشورات الفيس بوكية عبارة عن تجريح شخصي أو تجريح هيئات لا علاقة لها بالنقد لا من قريب ولا من بعيد. وعلى الناقد مراعاة الظروف الموضوعية للحالة محل النقد، وأيضاً مراعاة الزمان والمكان لها، وكذا الوسائل المستخدمة في نقدها، فمثلاً نقد حالة مر�' عليها 1000 سنة لا يكون كنقد حالة معاصرة؛ فالناقد في المسائل القديمة لا يمتلك رؤية موضوع النقد من كافة الزوايا المعاصرة للموضوع، وهنا يصعب الجزم بصحة ما يتوصل إليه النقاد؛ لأن الكثير منهم يغرق في عاطفته مع أو ضد الحالة محل الدراسة، أقرب مثال على ذلك من يدرسون الدول القديمة في عصر الإسلام كالدولة الأموية والعباسية اليوم يقعون في الاستشراف العاطفي للموضوع أكثر من النقد الموضوعي، فالناس على طبيعتهم والنقاد منهم مع أو ضد، ولذا ينصح لمن يريد أن ينقد أن يعمل في موضوعات حديثة تتناسب مع الواقع بدلاً من الهروب إلى التاريخ لتجنب الوقوع في العاطفة ونسيان الموضوعية. الغريب أن الصحف والمواقع الصحفية كل يوم تطالعنا بمقالات متنوعة، لكنها تفتقر إلى وجود المقال النقدي المتخصص، ويظن بعض الكتاب والصحفيين أنهم يقدمون نقداً في تناولاتهم، إلا أنها متحيزة وليست ذات قيمة نقدية، ربما تكون مهنة الصحافة قد وصلت إلى هذا الحد في بلادنا لكننا هنا ننوه إلى ضرورة إيجاد المقال النقدي ليحل محل المقال المتحيز والمتعصب في كثير من الأحيان، ليقدم للقارئ ما يفيده وما يغنيه عن التنقل بين المقالات الوجدانية المتناسقة الكلمات الخالية من أي محتوى نقدي بحسب المواصفات أعلاه. لقد مل�' الناس من المقال الافتتاحي في الصحف الرسمية، فهو كلام لا يزيد عن أن يكون مكرراً ونمطياً لا يختلف من يوم لآخر، ومن العمود الصحفي الذي يضع الكاتب نفسه مع أو ضد فقط بدون وسطية في الطرح، كما أن المقال التحليلي أيضا غائب لغياب القادرين على امتلاك قدرات التحليل إلا فيما ندر.