الشعار الحوثي، الذي كان محظوراً لسنوات، بات اليوم يغزو العديد من المناطق والمدن اليمنية بما فيها العاصمة صنعاء. ولا أعتقد بوجود إشكالية في الشعار تستدعى حتى مجرد الامتعاض باعتبار مضمونه محوراً استمر لأكثر من نصف قرن، ومازال، في فكر وسياسة معظم مكونات التيار القومي والإسلامي في اليمن والمنطقة العربية. وعلى قلة الوعي بالاتفاق على المضمون لقي الشعار، كرمز سياسي لحركة جديدة، ترحيباً وتسهيلات من قوى رأت في الحركة منافحاً إيديولوجياً لحزب الإصلاح، وآخرون اعتبروها ذراعاً سياسياً للزيدية وممثلاً لفئات تعتقد بانتمائها الأسري للهاشمية، ما يجعلها في نظر هؤلاء مصدر قوة لابد من التفاعل معه وناصرته. وعلى الضفة الموازية، دق الشعار الحوثي أجراس خطر لدى متخوفين من عودة البلاد لحكم الأئمة، وقوى ذات منبت مذهبي سني، بمقدمتها الإصلاح والتيار السلفي بمختلف فصائله، خصوصاً أن التحركات الحوثية لم تقتصر على مناطق التواجد المذهبي للزيدية، وغيرهم مجموعات ترى في الحركة الحوثية تمدداً للنفوذ الإيراني في اليمن. الديمقراطية تعطي الحق لأي فئة اجتماعية أن تعبر عن نفسها سياسياً، طالما التزمت بقواعد اللعبة المدونة عادة في الدستور، العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. وإن كان من مبرر للقلق من الحركة الحوثية فهو أولاً موقفها من حمل السلاح وانتهاج العنف لتعزيز انتشارها، مع الاعتقاد أن اعتمادها على قوة السلاح قد يخدمها في ظروف ضعف الدولة حالياً، لكن في المستقبل القريب سيكون السلاح نقطة ضعف قاتلة ستعزل الحركة عن تحالفات سياسية اتقنتها بمساعدة الأجواء السياسية الراهنة، إضافة إلى أن أي سلطة قادمة تحترم نفسها لن تسمح بوجود سلطة رديفة ودولة داخل الدولة. وقضية ثانية، تمنح الشعور بالقلق المشروعية، تتعلق بالأساس الزيدي للحوثية، وبالأخص نظرية الاصطفاء السلالي، ليس على المستوى العلمي والديني فحسب، وإنما على المستوى الاجتماعي والسياسي كذلك. ربع سكان اليمن يدينون بالمذهب الزيدي الشيعي وعلى مدى أحد عشر قرناً عاش إلى جانب المذهب الشافعي السني، ولم يسجل التاريخ الإسلامي لليمن صراعاً بين المذهبين، وإن كان من حوادث بينهما في لحظات تاريخية ما، لم يكن منطقها مذهبياً، على الأقل، على مستوى الطرح العام. وبصورة شاملة، يعد المذهب الزيدي وسطاً، ومعتدلاً في أصوله العقائدية، واجتهاداته الفقهية، ومنهجه الاستنباطي البحثي قائم على التوفيق بين النص والعقل، وهي ميزة يكاد يتفرد بها بين المذاهب الإسلامية، سنية أو شيعية. ولعل إشكاليته تتمركز في نظريته السياسية العامة، لناحيتي حصر الحكم في البطنين (نسل الحسن والحسين أبناء الإمام علي رضي الله عنهم)، وفي وسيلة العنف للخروج على الحاكم، ووجه الإشكالية هنا، يكمن في مناسبة نظرية ثيوقراطية، تقليدية بامتياز، للعصر، وإمكانيات نجاحها في إضفاء المشروعية على الحاكم في عالم اليوم، ويكمن أيضاً في عدم توافقها مع قواعد اللعبة الديمقراطية المرتكزة على تكافؤ الفرص لكل الفئات في الوصول إلى الحكم عبر الانتخابات. المذهب الزيدي يتمتع بمرونة في التعاطي مع الواقع، وفي الصدد أظن الكثير يتذكرون فتوى مجموعة من علماء الزيدية في التسعينيات تؤيد الاختيار الشعبي للحاكم بديلاً عن ولاية البطنين. وفي الوقت الذي قدمت الحوثية نفسها كحركة إحياء زيدية، عادت بالفكر الزيدي إلى نظرية الاصطفاء السلالي في ما أسمته "الوثيقة الفكرية والثقافية". ونظرية الاصطفاء لا غبار عليها، فهي ليست حالة بشرية فقط، فالمخلوقات العاقلة من ملائكة وإنس وجن، كما حكت الديانات السماوية تبتكر لنفسها معايير للخيرية والأفضلية.. وكم يحدثنا التاريخ البشري، كمجتمعات، وثقافات، عن توظيف مكونات جسدية، أو روحية لصالح توليف نظرية اصطفاء. ومن بينها ظهرت نظريات اصطفاء على أساس "جيني" وعرقي يستحيل صمودها أمام مناهج البحث العلمي، سيما فيما يتصل بنقاء عرق، وموثوقية سلامة الانتماء للأصل المفترض. والسؤال الذي يفرض نفسه، هو ما إذا كانت إيديولوجية الاصطفاء السلالي تخدم الحوثية كحركة سياسية للعمل وسط مجتمع ثلاثة أرباعه لا يدينون بالمذهب الذي تمثله، وفي إطار عملية سياسية محكومة بقواعد لعبة أساسها أن الحصول على السلطة مرتبط بكسب أصوات أغلبية الناخبين. هذا الكلام لا يقصد العداء لأحد، بل ينبع من أمنية أن يقدم لاعبو السياسة برامج لكل اليمن واليمنيين، من الأخدام (المهمشين) وحتى المشائخ. برامج تلقي بنا إلى المستقبل ولا تشدنا إلى الماضي، لأن الولادة خارج الزمن تعني الانتحار باكراً، وهذا ما لا نتمناه لأرقام صعبة في حياتنا السياسية. *المصدر: صحيفة الناس