تتوالى دعوات مختلف الأطراف المطالبة بتهيئة الظروف للدخول في مؤتمر الحوار الوطني الذي تأجل موعده من منتصف نوفمبر إلى أجل غير مسمى، فيما لا يعرف بعد ما تعنيه كلمة "تهيئة الظروف" وما هو المقصود منها على وجه التحديد؟ وما الذي يحول دون هذه التهيئة؟ وفيما يعيد البعض فشل انعقاد مؤتمر الحوار في موعده إلى عدم جاهزية اللجنة الفنية للتحضير للحوار، يبدو أن هذه اللجنة مكرهة -كأمر واقع- على تحمل أثقال الاتهام في التأجيل غير المعلن، ما يعني تبرئة غير منطوقة لمؤسسة الرئاسة ممثلة بالرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي الذي يعد المسؤول الأول على انعقاد المؤتمر أولا، ونجاحه ثانيا. ووفقا لنص القرار الجمهوري رقم (30) الصادر في 14 يوليو الماضي بإنشاء اللجنة الفنية التحضيرية لمؤتمر الحوار كان يفترض أن يصدر الرئيس في ال(15) من نوفمبر الحالي قرارات بالإجراءات التي اتخذتها اللجنة الفنية؛ إذ كان يفترض أن تكون اللجنة انتهت من مهامها بحلول 30 سبتمبر الماضي وإصدار تقرير نهائي تقدمه للرئيس ليقوم بدوره بإصدار القرارات بعد ستة أسابيع من صدور التقرير النهائي للجنة -بحسب نص القرار. وتفرض الآلية على الرئيس التوافقي والحكومة الانتقالية الدعوة لعقد مؤتمر حوار وطني شامل لكل القوى والفعاليات السياسية واشتراطها أن يتم ذلك «مع بداية المرحلة الانتقالية الثانية»، وهي المرحلة التي شارف عامها الأول على الانتهاء. ويبدو أن حزب المؤتمر الشعبي العام بتياريه هو الطرف غير الجاهز لدخول الحوار تبعا للانقسام الذي لا يسمح له بولوج الحوار الوطني، فضلا عن أن التيارين المنقسم بهما (التيار المحسوب على صالح، والآخر المحسوب على هادي) قد يحرصان على استمرار معوقات الحوار ولكل منهما أهدافه من وراء ذلك. ففيما يهدف صالح إلى إطالة الفترة الضبابية التي وصلت إليها العملية الانتقالية راجيا من ورائها المحافظة على أكثرية مصالحه المتبقية وإعاقة عملية التغيير والحيلولة دون اكتمال انتصار خصومه وتوفير الفرصة الكافية لإعادة ترتيب أوراقه وضمان تمتعه الكامل بما توفر له من عملية التسوية والنجاح المنقوص الذي انتهت إليه الثورة الشعبية والحصانة الممنوحة له وتأثيره المستمر في شئون البلاد وفي الحياة السياسية عبر جذور حكمه الممتدة في مختلف القطاعات والمؤسسات. ويرى صالح في استمرار هادي في الإمساك بمنتصف العصا مصلحة له ولا ضير عنده في استحواذ الأخير على الجزء الأكبر من الجزء المحدود الذي فقده هو وسير هادي في بناء أجنداته الشخصية ونظامه الخاص في ظل شبه توقف لعملية التغيير واستمرار قبضة المؤتمر على مفاصل الحكم والقرار الذي تفرد به لعقود وانحصار عملية تبادل السلطة في تقاسم نصف الحقائب الوزراية. قد يختلف هادي وصالح في جوانب غير قليلة حول عملية المحاصصة القائمة لكن تبقى المصلحة المشتركة بينهما إبقاء الوضع على حاله وعدم السماح بتقدم عملية التغيير التي يدرك صالح تبعاتها الخطيرة عليه وعائلته ورموز نظامه، ويعتقد هادي في نجاحها تهديد لأجنداته الخاصة رغم التطمينات الجريئة والمتلاحقة التي ترسلها إليه قوى وأطراف فاعلة. فمقابل سعي تيار صالح لإعاقة الحوار الوطني وإفشاله بشكل تام، يريد تيار هادي إعاقة الحوار وتأخير خطواته وليس إفشاله.. فيما يدرك تيار هادي أن بقاء الوضع الراهن يؤمن لهم الحصول على مصالحهم التي فقدوها مع صالح في ظل الاستقطاب المتسارع الذي يتسابق عليه التياران. هذا الواقع أفرز تيارا ثالثا داخل حزب المؤتمر نجح في كسب مصالح من "الرئيس" وحافظ على مصالحه من "الزعيم"، ما يعني أن مصلحة هذا التيار في بقاء الحال كما هو عليه. المراهنة والمداهنة ومع اقتراب العد التنازلي لانتهاء المرحلة الانتقالية المحددة بعامين يمكن القول بأن هادي قد نجح في تفويت الفرص المحدودة لسياسة المراهنة والمداهنة التي فرضتها عملية التسوية كأمر واقع أمام مختلف القوى والأطراف. ويبدو أن هادي قد استمرأ الإمساك بمنتصف العصا وتكرار تجربة صالح في أخذ قوى المعارضة الوطنية من نقطة ضعفها المتمثل في وطنيتها و"فائض عقلانيتها" بتعبير البعض، وخوفها من أن يميل -في حال جهرت بمعارضته- إلى الطرف الآخر. لقد وجدت القوى الثورية وأحزاب المشترك نفسها خارج اللعبة ولم يعد بيدها أية أوراق ضاغطة يمكن استخدامها مع هادي فضلا عن أن تلك القوى أو بعضها قد تكون تمتلك بعض الأوراق إلا أنها لم تعد قادرة على استخدامها في اللحظة الراهنة على الأقل.. ينسحب الأمر ذاته على القوى الثورية التي شهدت الأيام الأخيرة تراجعا كبيرا في فعالياتها فضلا عن أن تلك الفعاليات لم تعد بذات الزخم الصاخب الذي يفترض أن تكون عليه، ويوما بعد يوم تتلاشى من يدها ورقة الزخم الثوري. وإلى ذلك، يقوم الرئيس هادي باستقطاب لبعض مراكز القوى المحسوبة على الثورة لينتقصها على المشترك والمكونات الثورية، ويضيفها إلى رصيده مقابل ما يمنحها من مصالح بشكل خاص وذات الأمر يفعله باتجاه من تبقى مع صالح. وفيما يستفيد المؤتمر من حرص المشترك وقوى ثورية على بقائه لخلق توازن في العملية السياسية، يستغل صالح حرص هادي على بقائه -في المدى القريب على الأقل- كورقة نافعة لتقييد القوى والأطراف الأخرى. كانت أطراف فاعلة في التسوية أفصحت مبكرا عن قلقها من احتمالية سير هادي نحو تكوين مشروع خاص إلا أنها لسبب أو بدونه غضت الطرف سريعا وآثرت الاحتفاظ بالصمت، الأمر الذي فرض على وسائل إعلامية مصنفة على قوى الثورة والمشترك أن تحجم عن تسليط الضوء لمآخذ إدارة هادي وثغرات بعض قراراته العسكرية والمدنية باعتبار ذلك "خط أحمر" قد يصب في صالح الأطراف المعادية. ومقابل وقوف صالح حجر عثرة أمام توحيد الجيش والأمن أظهر هادي تراخيا ملحوظا خلال الأيام الأخيرة في المضي نحو تحقيق هذا الهدف. الأمر ذاته حدث مع التقاء تياري هادي وصالح على تأخير وعرقلة تنفيذ بنود المبادرة الخليجية؛ كالذي حدث مع عرقلة مشروع قانون العدالة الانتقالية. ومنذ وقت مبكر برز التباطؤ والتأخير المستمر الذي اختاره هادي في تقسيط الحلول، الأمر الذي برزت معه مخاوف من سعيه لتأمين فرض بقائه لفترة رئاسية قادمة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية المحددة بناء على شروطه بسنتين في قول مصادر سياسية إن هادي كان قد رفض القبول أن تكون الفترة الانتقالية (6) أشهر، واشترط أن تكون سنتين مقابل نقل صلاحيات علي صالح إليه بناء على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. تراخي ملحوظ يبدو أن هادي لا يريد اتخاذ قرارات بإبعاد بقايا عائلة صالح من المناصب العسكرية والمدنية رغم أن إقالتهم صارت من المسلمات بل والضروريات التي لا يستطيع هادي أن يتراجع عنها. وسبق وأعرب مراقبون عن مخاوفهم من استخدام هادي بقايا عائلة صالح كأحد الأسلحة التي يحتفظ بها لنفسه، بالإضافة إلى سلاحي التأييد الدولي والقضية الجنوبية واستخدامه الثورة كوسيلة لبناء نظام حكم بمقاييس ليست واردة في حسابات الثورة ولا الطرف الآخر المتمثل بصالح. وتتحدث معلومات عن صدور قرارات غير معلنة تقضي بتعيينات في مناصب مختلفة في المؤسسة العسكرية والأمنية والمدنية. وفي وقت لاحق جمد هادي قرارات عسكرية ومدنية ودبلوماسية كان من المقرر إصدارها عقب إجازة عيد الأضحى يفترض أن تشمل إقالة أحمد علي عبدالله صالح من قيادة الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وإقالة يحيى محمد عبدالله صالح من منصبه كرئيس لأركان حرب قوات الأمن المركزي. فيما لم يصدر هادي قرارات تعيين لنحو 29 منصباً شاغراً في سفارات اليمن بالخارج. وسبق ووصف مصدر إعلامي بمكتب هادي أخبار صدور قرارات بإقالة قيادات عسكرية تشمل أقارب صالح وعلي محسن الأحمر بأنها "مزاعم وادعاءات تحريضية وتخريبية وتهدف إلى مرامي تثير البلبلة". وشن المصدر هجوما لاذعا على وسائل الإعلام التي تعاطت مع الخبر المنشور في موقع صحيفة "الثورة" الحكومية ووصفها بالجرائد "الصفراء والمواقع الكاذبة والمفترية". كما سبق لمصدر بالمكتب الإعلامي للرئيس هادي نفيه لخبر نشرته صحيفة «26 سبتمبر» الناطقة باسم وزارة الدفاع (الخميس 20سبتمبر2012) عن صدور قرارات رئاسية مرتقبة تشمل قادة عسكريين وأمنيين وسفراء ومحافظين؛ إذ نفى «مصدر إعلامي في مكتب الرئيس» ذلك الخبر وحذر من ما وصفه «اختلاق مثل هذه الأخبار والفبركات الكاذبة التي تهدف إلى الإثارة وربما لتحقيق أغراض ذات مرامي تخدم أهداف معينة» وقال إن تلك الأخبار «محاولة خلق الإثارة والافتراءات الكاذبة». ويأتي هذا التحول في الخطاب الرئاسي متناقضا مع إفصاح هادي إبان زيارته الخارجية التي شملت الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا ودولا أوروبية واختتمت بزيارة قصيرة للمملكة العربية السعودية عن موقفه المتطور إزاء عملية هيكلة الجيش وهو يتحدث عنها كجزء «لا يتجزأ من المبادرة الخليجية» ويعتبرها واحدة من أبجديات «الإصلاحات العميقة» ومتطلبات المرحلة الانتقالية.. وتشديده على ضرورة أن يمضي الحوار الوطني وخطوات إعادة الهيكلة وتشكيل اللجنة العليا للانتخابات والسجل الانتخابي الجديد في وقت واحد «حتى لا تتوقف عند بعض الاشتراطات التي قد تولد فيها بعد مشاكل أكبر». ومقابل الجدية التي أظهرها هادي عقب زيارته تلك في التقدم بعملية توحيد الجيش والأمن والمضي نحو الهيكلة شهدت الفترة القريبة الماضية تراخيا ملحوظا في ذلك الاتجاه. التراخي جاء متزامنا مع تعثر عملية صدور قرار بقانون العدالة الانتقالية المقدم إلى هادي وباسندوة قبل أكثر من 5 أشهر، والتباطؤ فيما يتعلق بتشكيل اللجنة العليا للانتخابات وإعداد السجل المدني والسجل الانتخابي وتعثر عمل لجنة التحقيق في الانتهاكات. [email protected]