أحاول جاهدا وأنا أكتب عن طفولة حجة المسلوبة أن أستنزف الشعور العميق والذاكرة التاريخية كي ألمح التفاصيل الدقيقة والأغوار العميقة التي لا تلتقطها العدسة السطحية والنظرة العابرة. لقد طغت على طفولة صعدة لون الدماء المسفوكة وصوت المدافع المدوية وباتت ثقافتهم واسعة ودقيقة في التفريق بين الكلاشنكوف والآر بي جي وبين المسدس الروسي والمكروف ولهم قدرة كبيرة في التمييز بين قذائف الهاون ومدافع الهاوزر. في الساعة الثامنة صباحا يجتمع سامي وأصدقاؤه المحرومون من كل شيء وكأنهم مجموعة صغيرة تعيش في رواية البؤساء لفيكتور هوجو. وعندما تراه لا تستطيع أن تتمالك عينيك أو تتحكم في شعورك لأنك ترى فيه الفقر مجسدا في طفل وكل ما فيه يكشف عن حقيقة مؤلمة تنام داخله.. خارطة وجهه هي خارطة بلد مزقته الأفكار الطائفية والعنصرية المذهبية وكل هذا كما يقال من أجل من يصف نفسه ب»ابن رسول الله». فراغ الحياة، وفراغ الطفولة، وفراغ العلب.. هذا كل ما يجمع سامي في جسده النحيل. لا تحتاج إلى فراسة كبيرة أو نور إلهي حتى ترى فيه نفسية مجهدة وحقوق طفل ضاعت في هامش الحياة فأين الضمان الاجتماعي لطفل يذرع شوارع صنعاء كأن الله وكله بقياسها بحثا عن العلب الفارغة. وهو يزور ساحة التغيير يوميا ليس لأنه ثائر بالضرورة بل لأنها تمتلئ حسب قوله بالعلب الفارغة التي تجني له أكبر قدر من المال. علبة ماء فارغة تساوي الحياة... هذا كل ما يعرفه سامي عن المعادلات الرياضية والعلاقات الكيميائية. إن كل ما نحتاجه كيمنيين أن نتحسس الإنسانية بداخلنا لئلا تموت وأن نتخفف ولو قليلا من الأيدلوجيات التي نحملها وأن ننظر للإنسان على أنه قيمة خالدة تنتهي عندها كل القيم. حياة مليئة بالمفارقات، ففي الوقت الذي لا يجد فيه كثير من مشردي صعدة ونازحي أبين من البطانيات ما يتقون به برد الليل القارس يكون وقتها كثير من القديسين الصغار يحلمون بالأولياء والصالحين يبشرونهم بالجنة والنعيم الخالد رغم أنهم لا يعرفون جيرانهم. مدينة مليئة بالمتاريس ولا وجهة لها مثل نفسية سامي المشتتة وليس له علاقة بالهمبورجر والشوارمة والشنطة المدرسية وكل ما يستهوي قلبه علب الماء الفارغة في مواجهة جادة للحياة القاسية والتي لن تنتهي بصفارة الحكم. كل ما يتمناه سامي ليس له علاقة باللعب والحديقة بل أن يجمع أكبر كم من العلب الفارغة لأن فراغا في عينيه يصرفه عن كل شيء إلا بقايا طعام وفراش صغير يتسع لرجليه الصغيرتين. غرفة مستأجرة لطفل في ركن مهمل اندرجت فيها حياته كأنها غبار عالق في أحد النوافذ القديمة يسهل عليك إزالته وكنسه. لم أكن أعلم كيف أن الوحشية تفترس البراءة وكيف يتحول الفرح إلى مأتم وكيف يستوي قرطاس اللعبة وقرطاس اللغم. هل كان (مشتاق) ذو الأربع سنوات يعلم أن اللعبة التي التقطها من الأرض ليلعب بها مع أخته ستمزقه أشلاء وتحول جسده كلعبة سقطت من يد طفل وتكسرت إلى قطع صغيرة. لم تر هيف ذو الخمس سنوات في جسد أخيها الممزق غير عروستها الممزقة ولكن ما لا تعرفه أن أباها لن يبتسم لها مرة أخرى ولن يشتري لعروستها أختاً كما كان يفعل كلما رأى عروستها ممزقة ولو كان بإمكانه أن يستعيد ابنه من الآخرة لما فعل. هنا أرض عشت فيها ذاكرة الطفولة وأناشيد الصبا وقد حملت سفاحا بثلاثة آلاف لغم. وهنا أطفال مشردون لا يحلمون بغير بلد مستقر وأزهار صغيرة، ويتمنون أنهم في مجتمع يقرأ لمحمود درويش: وأنت تعد فطورك فكر بغيرك لا تنس قوت الحمام وأنت تخوض حروبك فكر بغيرك من يطلبون السلام وأنت تعود لبيتك فكر بغيرك لا تنس شعب الخيام.