وصل فضيلة العلامة والداعية الإسلامي الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ عميد دار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية إلى جمهورية جنوب إفريقيا( ) في 18 صفر 1436 ه الموافق 10 ديسمبر 2014م في زيارة يُجدّد من خلالها النشاط الدعوي لرجال مدرسة حضرموت والمتسلسلة بالسند المتصل شيخاً عن شيخ إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يقدِّم خلالها العديد من الدروس والمحاضرات في عدّة مدنٍ ويلتقي بأهل العلم والمهتمين بالدعوة إلى الله عز وجل مُبلِّغاً عن الله ورسوله والسلف الصالح هدي الإسلام وتعاليمه، وهذا ما كان عليه رجال العلم والورثة الأكرمين، خصوصاً رجالُ مدرسة حضرموت في نشرهم وحملهم همّ الدعوة الله وخدمة منهج الحبيب الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بمنهجٍ نبويٍ وسطيٍ أثمرَ وبشكلٍ مشاهَد في مشارق الأرض ومغاربها، وهو أمرٌ مُسلَّمٌ به ومُثبَتٌ في كُتبِ وسجلات التاريخ ولا مِرية في ذلك. وما لفتَ انتباهي في رحلة العلامة عمر بن حفيظ هذه وفي محطته الأولى مدينة كيب تاون وكان من ضمن برنامجه إقامةُ دورةٍ علمية في كتاب (فتح بصائر الاخوان بشرح دوائر الاسلام والإيمان والإحسان والعرفان) وهو من تأليف علامة الدنيا الإمام عبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه الحضرمي التريمي تلميذ الإمام الحداد. أقيمت هذه الدورة ولمدة أربعة أيام (19-22 صفر الموافق 11-14 ديسمبر) لعدد من الدعاة والمهتمين بأمر الدعوة إلى الله في قرية ماكاسار إحدى ضواحي مدينة كيب تاون بجنوب افريقيا. ولهذه القرية (ماكاسار) سرٌ رباني غريبٌ لفتَ انتباهي إليه أحد أساتذتي الكرام وأعطاني تمهيداً جميلا لهذا الموضوع وهو ما دعاني وحداني إلى الكتابة فيه. ومنطقة ماكاسار بجنوب إفريقيا( ): جاءت تسميتها نسبةً إلى اسم الداعية الشيخ يوسف التاج المكاساري الإندونيسي الأصل. وهي إحدى ضواحي مدينة كيب تاون، ويوجد بها مقامه المشهور. وسيأتي مزيد تفصيل في الترجمة الملحقة بهذا المقال. وماكاسار الاندونيسية( ): أو مكاسار أو مكسار هي الموطن الأصلي للشيخ الداعية يوسف المكاساري وهي عاصمة مقاطعة سولاوسي الجنوبية الإندونيسية، وهي كبرى مدن جزيرة سولاوسي ( Sulawei ). عُرفت باسم أوجونغ باندانغ بين 1971م و1999م نسبة إلى حصن كان موجودًا قبل الاستعمار. وتقع مكاسار على الساحل الجنوبي الغربي للجزيرة، وتطل على مضيق ماكاسار، وبها ميناء. فهذه القرية (ماكاسار) بجنوب إفريقيا جاءت تسميتها كما أسلفنا نسبة إلى الولي الصالح والداعية المشهور الشيخ يوسف التاج المكاساري والذي نفاه المستعمر الهولندي من مدينة ماكاسار موطنه الأصلي في جزيرة سولاوسي بشرق إندونيسيا إلى هذه المنطقة بجنوب إفريقيا؛ لدوره في مقارعة الاستعمار وقيامه بالدعوة إلى الله وإلى الإسلام وأخلاقياته.. وتوفي بها( )، وهو الذي نشر الله على يديه الإسلام وتعاليمه وإعلاء كلمته في جنوب إفريقيا، كما نشر المحافظة على الأذكار النبوية (أذكار الصباح والمساء) المعروفة باسم راتب الإمام عبدالله الحداد الحضرمي التريمي( ) المتوفى سنة 1132ه، حيث التقى به في طريقه إلى الحج بتعز اليمن وقرأ الشيخ يوسف عليه كتاباً وصحبه وأجازه، وقد أشار إلى ذلك الإمام الحداد في كتابه (النفائس العلوية في المسائل الصوفية)( ). وفي صباح يوم الجمعة 20 صفر 1436ه 12 ديسمبر 2014م توجه لزيارة مقام وقبة الشيخ يوسف المكاساري العلامة والداعية الحبيب عمر بن حفيظ أثناء تواجده بكيب تاون على هامش الدورة العلمية المقامة هناك والتي أشرنا إليها، وتعرّفَ الحبيب عمر عن قربٍ عن أهم المحطات التي مرّ بها الشيخ المكاساري وبعضاً من قصصه في تبيلغ الناس وإرشادهم كما سمع مِن دعاة تلك المنطقة وساكنيها عن علاقة الشيخ المكاساري بالإمام الحداد وسر ارتباطه به. ومن خلال عدد من الأبحاث والمتابعات اتضح أنّ الشيخ يوسف المكاساري هو مَن قام بنشر ذلك الراتب الشهير وتلك الأذكار النبوية بين أوساط المجتمع في جنوب أفريقيا ونواحيها بإجازة من الإمام الحداد، والزائر لجنوب إفريقيا اليوم يرى أنّ غالبية المسلمين مهما اختلفت انتمائهم ومشاربهم حتى مَن لا ينتسِبُ إلى طرق التصوف يراهم محافظون على قراءة راتب الإمام الحداد والورد اللطيف وبقية كتبه ومعتكفون على قراءتها ومحبين له. ومؤخراً في عام 1433ه 2012م جدّد البروفسور حسين محمد (بروفسور في الطب الصيني بجامعة كيب تاون)( ) وأحد المحبين للإمام الحداد طباعةَ بعض مؤلفات الإمام الحداد ومِن بينها الورد اللطيف وترجمه إلى الانجليزية ليسهل تداوله والحصول عليه في تلك الأماكن والبقاع. واصلتُ في معلومات من مصادر وبحوث عديدة ورسائل محققة لبعض كتب الشيخ يوسف المكاساري وأخرى من بعض الباحثين وتوصلتُ من خلالها إلى علاقة دينية وروحية تربط بين ثلاثة أضلاع المثلث (مثلث النور) .. الضلعان الأولان هما ماكاسار بإندونيسيا ومنطقة ماكاسار بجنوب إفريقيا، والضلع الثالث والمتمم لهما هو حضرموت ذلك الاسم التاريخي الحاضر وبقوة عند ذكر البلدين السابقين على وجه التحديد وغيرهما من تلك البلدان والنواحي على وجه العموم. خلاصة القول: جزرُ إندونيسيا .. جنوب إفريقيا .. حضرموت .. هو مثلثٌ إيمانيٌ فريدٌ مِن نوعه رغم اختلاف الأعراق والألوان واللغات.. ومسافات متباعدة.. وأبعاد جغرافية هائلة.. وجهات مترامية الأطراف تُباعدها عن بعضها آلاف الكيلومترات جواً وبحرا.. غير أنّ مشاعل الهداية ونور الإسلام والسلام كانت خير قاسَم يجمعُ ذلك الاختلاف ويذيب ما تناكر منه إلى تعايش ووئام وائتلاف .. يتساءل الكثير.. ما الذي جعل ذلك الامتزاج والتقارب ممكن؟ إنها إرادةُ الله عز وجل جعلت من اللا ممكن ممكناً.. إنها الوعود المحمدية الناطقة من مشكاة الوحي الإلهي والقائل ((حتى لا يبقَ بيت حجر ولا مدر إلا ودخله ديني بعز عزيز أو بذلّ ذليل)) وهو ما كان ويكون .. إنه نور الإيمان وطلائع التجديد وهمّة الدعوة لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وتلك هي رايات الدين التي لا تعرفُ المستحيل، وترعاها الرعاية الربانية -رغم ما يكيده الأعداء ويبقى دوماً كيدهم في نحورهم- لتتغلبَ تلك الإرادة القوية على حواجز المكان وتقلبات الأزمان وعوائق الإمكانيات. وفي السنوات الأخيرة رأينا تلك العلاقة وتجديدها تسري وتؤتي ثمارها من خلال الورثة الأكرمين الحاملين للسر المحمدي والإرث النبوي (( يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالِ المبطلين وتأويلِ الجاهلين)) وهو نفسُه منهجُ مدرسة حضرموت ذو الطابع الوسطي الجامع والمقرِّب للعباد على خُطى مستنيرة بهدي الإسلام، وتعاليمِ وسيرةِ إمام الدعوة ونبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وصحبه الأكرمين، بالحكمة والموعظة الحسنة وعلى ذلك مشى وسار سلف الأمة وخيارها من الدعاة الصادقين ممن أجرى الله على أيديهم النفع وتحبيب الخلق إلى خالقهم وإسعادهم. وهكذا تمتد آثار وبركات دعوة رجال هذه المدرسة المباشرة وغير المباشرة وما ذكرناه في مقالنا هذا هو انموذج من نماذج جمّة منتشرة في أنحاء هذه المعمورة، ولله درُّكِ مِن مدرسة علميةٍ تربويةٍ دعويةٍ.. إنها مدرسة المحبة والرحمة والسلام.. ومكارم الأخلاق والوئام، ولله درُّكم مِن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى سجّلوا للأمة صفحات ناصعة شهِد الأعداء بفضلهم قبل محبيهم، وصنّف المؤرخون والباحثون عن مكارمهم وعظمتهم وتعايشهم كتباً ومجلدات ما أبهر العقول من حسن تعاملهم ومنهجهم، وهدى الله ويهدي بهم خلقاً بل وأمماً كثيرا. لله قومٌ إذا حلّوا بمنزلةٍ ** حلَّ الرضا ويسير الجود إنْ ساروا تحيا بهم كل أرض ينزلون بها ** كأنهم لبقاع الأرض أمطار الشيخ يوسف المكاسري وحال الإسلام والمسلمين في جنوب إفريقيا: ولتمام الفائدة نُورِدُ هنا ترجمةً مختصرة عن الشيخ يوسف المكاساري وبعضاً من أهم المراحل الدعوية التي أفنى فيها الشيخ المكارساي وقتاً ثميناً من حياته رغم التحديات والمخاطر التي أحاطت به غير أنّ توكله على الرب الأعلى وعزيمته الصادقة وهمّته الفذّة كانت أقوى وأعلى لتبرز لنا اليوم شخصيةً من عظماء الدعاة إلى الله، ورجل من رجال العلم الصابرين المجاهدين المخلصين الذين ضحّوا وخاطروا بأنفسهم في سبيل إعلاء كلمة الله ونشرِ راية التوحيد بمنهجٍ وسطيٍ ونفسٍ زاكيةٍ وقلب مطهر يحمل الرحمة لخلق الله وداعياً إيّاهم بالحكمة والموعظة الحسنة.. وإليك أخي القارئ طرفاً من ترجمةٍ مطولةٍ كتبتها وإنما اختصرتها هنا خشية الإطالة على القارئ ولمن يرغب في الزيادة نفيده بها في قادم الأيام وفي محلها بمشيئة الله. هو الشيخ الولي والداعية المصلح يوسف التاج المكاساري( ) ولد بمدينة جوا Gowa (مكاسار) التي تقع في محافظة جنوب سولاوسي الاندونيسية في الثامن من شوال 1036 ه الموافق يوليو 1627م، ووفاته بجنوب إفريقيا مدينة كيب تاون بقرية مكاسار في عام 1111ه الموافق 23 مايو 1699م. تتلمذ الشيخ يوسف على يد شيخ مملكة جوا Gowa ابتداءاً بقراءة القرآن وتعلّم اللغة العربية، وأتمّ ختم القرآن في سنّ مبكر، وأظهر الشيخ يوسف براعة في علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة الإسلامية مثل: النحو والصرف والمعاني والفقه وكان يميل إلى التصوف. وانطلق ليتعمق في العلم من منطقة جوا تللو Gowa Tallo مكاسار إلى بنتان Banten ثم ذهب من بنتان إلى أتشيه وهناك التقى بالشيخ نور الدين الرانيري وتعلّم منه الطريقة القادرية ونال إجازة فيها، ثم ذهب منها إلى اليمن والتقى بالشيخ عبدالله عبدالباقي بالله ونال منه إجازة الطريقة النقشبندية، وفي زبيد (اليمن) منحه السيد علي الزبيدي إجازة، كما التقى بالإمام عبدالله بن علوي الحداد الحضرمي ونال منه إجازة وقراءةً عليه في كتاب في التصوف، وانطلق من اليمن إلى مكةالمكرمة لأداء فريضة الحج وأقام بها فترة للتعلم، ثم إلى المدينةالمنورة وطاب له الجلوس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والتقى في المدينة بالشيخ برهان الدين الملاه ابن الشيخ ابراهيم بن حسين ابن شهاب الدين الكردي القرني المدني ونال منه إجازة الطريقة الشاطرية، وواصل بعد ذلك سفره إلى الشام وتعلّمَ بها على يد الشيخ أبو البركات أيوب بن أحمد بن أيوب الخلوتي القرشي، وتلقى إجازة الخلوتية منه، ولإعجاب شيخه بمكانته وعلمه وبالدرجة التي وصل إليها منحه لقب تاج الخلوتية، وبذلك أصبح للشيخ يوسف ألقاب كثيرة وأصبح من أسمائه الحاج يوسف أبو المحاسن هداية الله تاج الخلوتية المكاساري. عاد الشيخ يوسف إلى جوا تللو Gowa Tallo مكاسار يملأه الأمل ليعلّم الناس في بلاده ولكن سرعان ما خاب أمله بسبب ما لاحظه من تغيير في البلاد فقد قامت حروب بين السلطان حسن الدين ضد الشركة الهولندية VOC وارو بالاكا Aru Palaka حيث انحاز للهولنديين مما أدى إلى إتفاقية كاباياري بوجايا kapari Bogaya في 18 نوفمبر 1667م بين السلطان حسن الدين وسفيلمان Speelman لمحافظة الهولندي، وكانت نتيجة هذا الاتفاق الحد من حرية مملكة جوا Gowa وتدخل الهولنديين في شؤونهم، وهذا ما سبب ضعف المملكة وانتشار المعاصي بين فئات الشعب. لاحظ الشيخ يوسف انتشار الأعمال المنافية للإسلام مثل لعب الميسر وشرب المسكرات ولعب القمار ومصارعة الدجاج وعبادة الأصنام ولذلك نادى الشيخ يوسف بعض تلاميذه وأصحابه وعرض عليهم أن يستمروا في الدور التنويري الذي بدأه وأعطاهم البيعة لمواصلة الدعوة لإعلاء شان الإسلام في تلك البلاد ومحاربة المنكرات، ولكن السلطان لم يستطع أن يأمر الناس بالكف عن هذه الأعمال والمعاصي، وبسبب ذلك شعر الشيخ يوسف أن ليس له مكان بجوا ما دام أن حاكمها من النوع الذي لا يريد أن يعلي كلمة الله، وترك الشيخ يوسف جوا المرة الثانية متوجهاً إلى بنتان في سنة 1672م. وفي بنتان التقى الشيخ يوسف بالسلطان ترتاياسا Tirtayasa، وفرح السلطان بقدومه وقربه إليه وأعطاه منصباً مناسباً وهو مفتي ومستشار، وصار الشيخ يوسف في بنتان شيخاً مشهوراً. وعاش فيها متواضعاً وداعياً للناس إلى سبيل الحق ليعيشوا سعداء في الدنيا والآخرة. كانت بنتان بعد قدوم الأوربيين أكثر تسابقاً لتحقيق أطماعهم لاسيما في حكم السلطان ترتاياسا الذي لم يمنح لهم الفرصة للعودة لامتيازاتهم ببنتان، ولكن في عام 1676م عندما عاد ولي العهد من الحج وكان يسمى باسم السلطان الحاجي كانت علاقة هذا الأخير بالهولنديين جيدة وكان يتشبه بهم في كل شيء، وكان هذا ما يتمناه السلطان ترتاياسا (الأب) من ولي العهد السلطان الحاجي (الابن) الذي منح بعض الامتيازات وأتاح الفرصة للهولنديين للتدخل في شؤون البلاد وذلك بصرف النظر عن رغبات أبيه في الحكومة. وأدرك الشيخ يوسف ذلك الخطر وبدأ مكافحاً في بنتان لرفع شان الإسلام والمسلمين بالمملكة والحفاظ عليها وحمايتها من أي تدخل أجنبي وفي شؤونها وناضل مع رفاقه المناهضين للوجود الهولندي في سلطنة بنتان في جاوة الغربية عام 1682م مما حدا بالهولنديين إلى نفيه بجزيرة سيلان ومعه 49 شخصاً. وهناك وخلال فترة المنفى بسيلان كانت له فرص كثيرة للذكر وألف العديد من الرسائل الدينية والتعليمية. ثم في سنة 1693م نفي إلى مدينة رأس الرجاء الصالح وكيب تاون بجنوب أفريقيا. وقد وقفتُ في مرحلة البحث هذه على ثلاثين مؤلَّفاً له ونذكر مهنا اختصاراً: البَرَكة السيلانية وهي مخطوطة ذكر فيها أنواع الذكر منها ذكر اللسان وذكر الخواص وذكر خواص الخواص، وحاشية في إعراب لا إله إلا الله، ومقدمة الفوائد التي ما لابد من العقائد، والفوائد اليوسفية في بيان تحقيق الصوفية، وتاج الأسرار في تحقيق مشارب العارفين، وتحفة الطالب المبتدئ وغيرها من المؤلفات النافعة والنادرة في بابها. أراد الاستعمار الهولندي من نفيه للشيخ يوسف إلى جنوب إفريقيا أن يعيش في منأى وبُعدٍ ومصاعب تقفُ دون تحقيقه هدفه السامي وهو هداية الناس وتقريب الخلق إلى الخالق وتعليمهم أمور دينهم وما يصلحهم ويقربهم إلى الله تعالى وهدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، وليت القوى الغاشمة تعلم أن الأقدار هي التي تصرّفهم وشاءت لهم ذلك.. أمرٌ ظاهره شر وفي مكنونه خيرٌ وفلاح ونور أراد الله إيصاله على يدي الشيخ يوسف (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]. ورغم أن انتقاله إلى موطن جديد وبيئة معقدة ومختلفة تماماً عما كان عليه، ويخيم عليها ظلمات الكفر وإلالحاد والضلالة ولم ترَ نور الإسلام من قبل قط.. فظن أولئك الأعداء المستعمرون أنهم حققوا المراد وأنه سيفترُ عن دعوته لعدم تهيئة الأرضية الخصبة لدعوة الناس وتقريبهم، ولكن هيهات (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة الأنفال: آية 30]، و(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [سورة التوبة: آية 32]. لم يكونوا يعلموا إنّ أمثال هؤلاء الرجال هُمْ جبالٌ راسية لا يُطفىءُ لهم نور طالما وهمُّ الدعوة إلى الله ممتزجٌ بهم في جميع أحوالهم وشؤونهم ومَن كان حاله مع الله ولله لا يخيبه أبدا ورعته عناية الله .. فما كان من الشيخ يوسف إلا أن شمّر وجدّ واجتهد في دعوة الناس بالحكمة وحسن التعامل ومكارم الأخلاق وهناك انتشر الإسلام على يديه في كيب تاون ونواحي جنوب افريقيا. وانتشرت محبته بين عامة الناس حتى من غير المسلمين، وهدى الله به أمماً وخلائق جمّة. فكان هذا أول قدوم حقيقي للاسلام الي هذه البلاد. فكان له الفضل والسابقة في دخول آلاف مؤلّفة إلى الإسلام في جنوب أفريقيا منذ ما يزيد على أربعمائة عام، وكان أكثر المسلمين هناك من العرب والهند والملايو وقليل من السكان الأصليين.. وكان الشيخ يوسف يمثل السلطة الروحية للمجتمع المسلم في كيب تاون وجنوب افريقيا. وقام ببناء أول مسجد بجنوب إفريقيا وأطلق عليه "مسجد ماليه"بكيب تاون، ويؤمُّ المسجد يومياً مئات المسلمين لأداء الصلوات، وتعلو أشجار النّخيل الخمس مدخله كرمزٍ للصلوات الخمس، وتقام مساء كل يومِ خميس حلقة ذكر في المسجد يتناول خلالها أهالي الحي الحديث حول أمور دينهم، وتم تجديد المسجد وترميمه بالكامل باستثناء جدار صغير بقي للدلالة على قِدمه. كما وخطّ الشيخ يوسف رحمه الله أول مصحف مخطوط في جنوب إفريقيا وهو موجود حتى الآن في خزانة زجاجية مغلقة بمسجد ماليه، ومفتوح على سورة "طه" التي تحض على نشر العدل والمساواة بين شعوب الأرض ورفع الظلم عن المظلومين. وينتشر المسلمون الآن في كل بلدات جنوب افريقيا تقريباً إلا أنهم يتركزون بشكل أساسي في منطقة كيب تاون (العاصمة التشريعية والسياحية للبلاد)، ويغلب على المسلمين في هذا المكان المذهب الشافعي لكون أصولهم اندونيسية وماليزية وحضرمية. ولعل أهم ما ميز المسلمون في جنوب إفريقيا هو اندماجهم الواضح في المجتمع ومقاومتهم لنظام الفصل العنصري جنباً الى جنب مع الأفارقة سكان البلاد الاصليين، ويبلغ عدد المسلمين في جنوب إفريقيا اليوم ما يزيد على مليوني نسمة، في حين ذكرت بعض الاحصائيات أن عدد المسلمين أربعة ملايين( ). ويتميز المسلمون في جنوب إفريقيا بالطيبة والسخاء وأيضا الغنى خاصة في منطقة جوهانسبرغ، فغالب المسلمون يعملون في التجارة. ويؤكد الدكتور عبدالسلام بسيوني( ) إنه لولا تبرعات المسلمين في جنوب إفريقيا وجهدهم وحبهم للعمل الخيري ما كان للأقلية المسلمة أن تنجز وتحافظ علي هويتها وكيانها وتشكل لوبي قوي في الدولة, فقد أنشأ المسلمون جمعيات للعلماء تعني بشئون المسلمين، واتحاد عام لمسلمي الجنوب الافريقي, الذي يندرج تحته هيئات للزكاة وهيئات للفتوى والدعوة، وهيئات للطعام الحلال والحج والعمرة واستطلاع الهلال. ويضيف أنّ المسلمين أنشأوا أيضا حوالي (5) إذاعات إسلامية ومحطة تلفاز(قناة الإسلام), وعدد كبير جداً مِن دور تحفيظ القرآن الذي يحتل مكانةً كبيرة لدى المسلمين حيث يوجد عدد كبير من الحفاظ. والحقيقة أنّ المسلمين في جنوب إفريقيا تمكنوا من بناء عدد كبير من المساجد التي تصل لأكثر من (2000) مسجد, وانك لتصيبك الدهشة حين تأتي لجنوب إفريقيا فترى المساجد الفخمة والشاهقة واقفة بين البنايات يتعالى منها صوت الأذان عبر مكبرات الصوت خارقاً هدوء المكان خمس مرات في اليوم. كما أنشأ المسلمون أيضا اكثر من مائة مدرسة إسلامية معترَفٌ بها من الحكومة تعنى بتعليم المسلمين العلوم الدينية والعصرية ويتخرج منها الطالب ليلتحق بالجامعات الجنوب أفريقية، هذا بالإضافة إلى انشاء دور العلوم الإسلامية التي هي بمثابة معاهد إسلامية على نسق الازهر الشريف في مصر أو الأربطة التعليمية في حضرموت تكون فيها الدراسة مركزة في علوم الدين( ). وتوفي الشيخ الداعية يوسف المكاساري عليه رحمة الله عن عمر ناهز 73 سنة بكيب تاون منطقة مكارسار في عام 1111ه/ 23 مايو 1699م، وأقيم له مقام يليق به وقبة تزار من قبل طلابه ومحبيه وكافة الزائرين للمنطقة. وأخبرت حكومة هولندا حكومة مملكة بنتان ومملكة جوا بمكارسار بوفاة الشيخ يوسف وعلى الفور طلب كل منها أن تسمح حكومة هولندا بإعادة جسده إلى أرض وطنه، ولكن الحكومة الهولندية لم تهتم بهذا الطلب، وتكرر الرجاء مرة بعد أخرى إلى أن وافقت حكومة هولندا على طلب السلطان عبدالجليل ونقل جسد الشيخ يوسف بعد مرور خمس سنوات من وفاته وذلك في 5 إبريل 1795م حيث وصل النعش إلى مملكة جوا ثم دفنه ثانية في المقام الموجود حتى الآن بقرية لاكيونغ Lakiung ، واشتهر مقام الشيخ يوسف عند سكان جنوب سولاوسي باسم كوبانغ Kubang (القبة Kubang)، وبقي مكان قبره بجنوب إفريقيا بكيب تاون قرية مكاسار معلماً مهماً للمجتمع الملاوي المحلي وله مقام مشهور بها . رحم الله الشيخ الداعية والمجاهد الصابر عن أمة الإسلام خير الجزاء وأعلى درجاته في الفردوس الأعلى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين. انتهى،، المراجع والمصادر: * تحقيق معاصر لمخطوطة (البركة السيلانية) للشيخ يوسف المكاساري (1036 – 1111ه / 1627 – 1699م) دراسة وتحقيق الأستاذ/ علي سافوترا. وهي دراسة وتحقيق وترجمة للرسالة أعلاه لنيل الدرجة الجامعية الأولى في اللغة العربية وآدابها (S.S) من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية جاكرتا في 24 جمادى الاولى 1429 ه الموافق 30 مايو 2008م. * تحقيق رسالة أخرى مخطوطة برقم (108) في المكتبة الوطنية بجاكرتا للشيخ المكاساري بعنوان (النفي والإثبات في الحديث القدسي) دراسة وتحقيق الأستاذ محمد فكري الكاف لنيل الدرجة الجامعية الأولى في اللغة العربية وآدابها (S.S) من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية جاكرتا للعام 1431 ه الموافق 2011م. * كتاب النفائس العلوية في المسائل الصوفية للإمام عبدالله بن علوي الحداد الحضرمي التريمي. * بحث (الأثر العالمي لدعوة الإمام الحداد) للباحث الأستاذ/ منير سالم بازهير رئيس تحرير مجلس التواصل والبحث تُرجم إلى الانجليزية. * مجلة التواصل الصادرة من دار المصطفى بتريم في عددها الرابع في شهر جماد الأول 1433ه / إبريل 2012م. *مقابلة صحفية أجريتها مع البرفسور حسين محمد (بروفسور في الطب الصيني بجامعة كيب تاون). * وقد وقفتُ كثيرا من خلال اطلاعي على الرسالتين المحققتين وغيرها إلى الإشارة والأخذ من رسالة مهمة تمنيت لو وقفتُ عليه أو حظيتُ به للدكتورة نبيلة لوبيس (رئيسة المجلس للعالمات المسلمات بإندونيسيا) وقد نالت بها درجة الدكتوراه وكانت تحت عنوان (الشيخ يوسف المكسري كشف كل الأسرار) والباحثة من أصل مصري عاشت عمرها في إندونيسيا واسمها الحقيقي نبيلة عبدالفتاح ثم اقترن اسمها باسم زوجها وفقاً للعادات والتقاليد هناك. * صحيفة الأهرام في مقال نشرته تحت عنوان (المسلمون في جنوب إفريقيا..أقلية قادرة علي الإندماج والتطور)، العدد 46156 السنة 137 السبت 10 جمادي الآخرة 1434 ه 20 أبريل 2013م. * جريدة الاتحاد بحوث ودراسات: رحلة ابو بكر افندي العلامة الكردي العثماني الى جنوب افريقيا في القرن التاسع عشر . دراسة : مارتن فان برونسن. عن الأنكليزية: د. بهروز الجاف. * معلومات مستفادة من الأستاذ الباحث محمد عبدالله الجنيد المدير التنفيذي لمجلس المواصلة بين علماء المسلمين بإندونيسيا.