عاش الشارع اليمني حالة من الصدمة المفزعة بعد مغادرة أمين عام مجلس التعاون الخليجي الدكتور عبد اللطيف الزياني صنعاء مساء الأربعاء الماضي دون التوقيع من قبل السلطة والمعارضة اليمنية علي مبادرة تسوية الأزمة ونقل السلطة سلميا والتي كانت تعد الأمل الأخير وحازت علي دعم دولي وإقليمي واسع وعدت أكثر من ثلاث مرات.مصدر الصدمة يعرفه اليمنيون جيدا وهو أنهم مقبلون علي أيام صعبة وغامضة يشوبها الرعب من الإقتتال الداخلي بعد أن تعثر الحل السياسي ووصول الجهود الدبلوماسية إلي طريق مسدود برغم أن حزب المؤتمر الشعبي الحاكم يؤكد إستعداده للتوقيع علي المبادرة في أي وقت ومكان إذا تراجع اللقاء المشترك المعارض عن إصراره بتوقيع أشخاص لايري المؤتمر الشعبي لهم صفة في الحياة الحزبية. وكالعادة سارع الطرفان إلي إتهام كل منهما الآخر بالتسبب في إجهاض المبادرة الخليجية والمسئولية عن تصعيد الأوضاع فيما الأنظار تتجه إلي دول الخليج لمعرفة موقفها الأخير والنهائي بعد فشل مهمة أمينها العام وفيما إذا كانت تنوي العزم علي الإستمرار في جهودها لحل سلمي للأزمة أم ستعلن وفاة مبادرتها تاركة الشعب اليمني للمجهول وانتظار الأسوأ. علي الأرض تنتشر رائحة الموت والبارود بسرعة في أرجاء الحارات والأحياء الشعبية في صنعاء ومدن يمنية كثيرة, وتحركات غريبة لحشد الأسلحة والرجال والعتاد واستعدادات مريبة لمواجهات شاملة وبروفات مسبقة للقتل في بلد يجيد أبناؤه فنون القتل بالفطرة.. صورة سوداوية ترسمها تطورات الأحداث في اليمن والتي تجاوزت ثلاثة اشهر من الثورة الشعبية السلمية حسب تسمية المعارضة والشباب المعتصمين, وثلاثة أشهر من التخريب والخروج علي الشرعية الدستورية وتأجيج الأزمة السياسية وفقا لتوصيف حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم. وصلت أجواء الإحتقان إلي ذروتها بين الطرفين وسط مواجهات باتت يومية تخلف القتلي والجرحي خاصة في صنعاء وتعز وإب وعدن والحديدة والبيضاء, وعصيان مدني شامل يعم المدن الكبري أسهم في شل حركة الحياة. وضمن الأجواء التصعيدية أعلنت اللجنة التنظيمية للثورة الشبابية الشعبية أن شباب الثورة اليمنية قد حددوا خياراتهم نحو الحسم وأنها بدأت فعليا بجمعة الحسم, نافية في السياق ذاته أي إعلان لموعد الزحف المرتقب نحو القصور الرئاسية. وقال مصدر في اللجنة أنها الآن تكثف مشاوراتها مع المكونات الشبابية لتحديد شكل وموعد التصعيد النهائي للحسم وإسقاط صالح ونظامه, معبرة عن اعتزازها بالالتفاف الشعبي العظيم حول ثورة التغيير, وبالاستجابة الوطنية للقطاع التجاري لدعوة شباب الثورة للعصيان المدني. ولأن المشهد في اليمن ضبابي وغامض ومحير ومخيف فقد تداعت بعض القوي السياسية والمدنية إلي تشكيل تحالف لمنع وقوع الحرب أطلق عليه التحالف المدني للسلام وحماية الحقوق والحريات, من أولويات أهدافه إبعاد البلاد عن شبح الحرب التي تسير نحوها, وألا تجعل نسبة من الناس تتقاتل علي مصالحها. ويقول رئيس التحالف الدكتور عادل الشجاع, أنهم لا يريدون أن يكونوا واجهة لأي قوة أو طرف سياسي, داعيا الجميع للبحث عن كيفية إنقاذ البلاد من مأزق الحرب, مطالبا بالضغط علي جميع القوي السياسية في السلطة والمعارضة للإتفاق علي كلمة سواء. وأرجع الشجاع جذور الأزمة القائمة في اليمن إلي عدم قدرة حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم, وأحزاب تكتل المشترك المعارض علي إيجاد حلول مناسبة لمشاكل البلد, لكونهما يتمسكان بكل الأدوات التقليدية التي استهلكت, بما جعل من الخيار الديمقراطي التعددي خيارا مستحيلا. ويقترح عبده محمد الجندي نائب وزير الإعلام اليمني أن يتم إحتضان الشباب المطالبين بالتغيير بكل الحب والحرص وأن يتم منع الدخول في أية صدامات ومواجهات دامية ومدمرة معهم, حتي لا نمكن القوي المضادة للثورة من الاستفراد بهم واستغلال حماسهم. ودعا الجندي هؤلاء الشباب المتحمسين للثورة إلي تحكيم مالديهم من العقول في مجمل اعتصاماتهم ومسيراتهم السلمية وعدم الانجرار إلي مالاحاجة لهم به من الاقتحامات والصدامات الفوضوية مع اخوانهم أبناء القوات المسلحة والأمن الذين وجدوا لحماية هذا المنشآت الحكومية وماتحتوي عليه من الوثائق والأثاث والأدوات المكتبية المكلفة. ويري الكاتب الصحفي محمد العلائي أن التصعيد الثوري الراديكالي المؤدي إلي خلق حالة من الانسداد السياسي التام, معناه جعل فكرة الصدام المسلح بين قوي النظام المنقسمة علي الجانبين أمرا حتميا, أي انتقال الكلمة الفصل لهذه القوي في الميدان الذي تبرع فيه وتمتلكه, مما يترتب عليه مصادرة الثورة. ويتوقع العلائي احتمالين في مضمار توقعه للتطورات: الأول أن يتمكن أحد هذه الأطراف, وكلاهما يمتلك المال والسلاح والمهارة القتالية, من حسم الصراع المسلح لمصلحته, والاحتمال الثاني: دخول اليمن في حرب مفتوحة طويلة الأمد وفوضي, قد لا تستطيع خلالها أية قوة أن تبسط سيطرتها علي البلاد وكسب المعركة لحسابها. وعلي الرغم من تعثر المبادرة الخليجية في الوصول باليمن إلي بر الأمان, إلا أنها تواجه إنتقادات شديدة من القوي المناصرة للثورة. ويري نبيل الفقيه وزير السياحة المستقيل أن المبادرة الخليجية جاءت في واقع الأمر برؤية يشوبها عدم الحيادية في أسسها, كما إنها جاءت لإرضاء كل الأطراف ومن زاوية ضيقة, فوضعت السلطة والمعارضة كأطراف تتنازع علي السلطة, في حين أن الأمر يختلف جملة وتفصيلا كون الشعب يعد الطرف الأساسي في المعادلة والسلطة تعد طرفا. ويؤكد الفقيه أن ربط المبادرة بالشرعية الدستورية يعد ربطا في غير محله, كون الدستور قد سقط بخروج الملايين من الناس إلي الشوارع مطالبين بالتغيير والإصلاح ومطالب الشباب هي مطالب الشعب, وهنا نحن أمام شرعية ثورية. لكن الدكتورة وهيبة فارع وزيرة حقوق الإنسان السابقة تري أن المبادرة الخليجية أقرب البدائل لرؤية مستقبل ما بعد الأزمة, التي قد توفر الحد الأدني من الضمانات لحل مشكلة تداول السلطة للجميع في وضع أصبح لا يقبل الآن حلا إلا التغيير السلمي, وبانتظار ذلك تصل المواقف اليمنية المتباينة حد الاشتعال مع تأني بعض دول الخليج في اتخاذ موقف مناسب وواضح منها قبل معرفة ردود أفعال الدول الكبري. وتتهم الدكتورة وهيبة فارع أطرافا أخري تلمح إلي انها القوي المتشددة لا تريد للأزمة أن تحل ولا تريد للمبادرات أن تنجح لأنها تعيش علي أزمات اليمن وقد سنحت لها الفرصة بمصادرة آراء الشباب والمفاوضة نيابة عنهم لخلق أزمة مستقبلية جديدة. كارثة إقتصادية وهناك بعد كارثي آخر للأزمة الخانقة في اليمن يتمثل في تدهور حاد وسريع للأوضاع الاقتصادية. ويحاول الإقتصاد اليمني المتعب أصلا أن يتجاوز عواصف الأزمة الطاحنة لكنه يجبر كل يوم علي إحصاء ما يحدث له من خسائر وتبعات في كل القطاعات ذات الصلة بالتنمية, والأرقام والتقديرات مؤلمة والتوقعات مخيفة للفترة القادمة في مجالات النفط والإستثمار وسعر العملة الوطنية وإيرادات الدولة والسياحة والعقارات والمقاولات وغيرها حيث قدرت الخسائر بنحو5 مليارات دولار إلي الآن. ويقول الخبراء اليمنيون إن العجز في الموازنة العامة للدولة سيرتفع بشكل كبير قد يصل الي4 مليارات دولار خلال العام الحالي بالإضافة إلي انخفاض الإيرادات العامة سواء الضريبية أو الجمركية نتيجة تباطؤ حركة التجارة والاستثمار بشكل كبير خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة, في الوقت الذي يواجه الريال اليمني ضربة قاسية أمام العملات الأجنبية جعلته يتهاوي إلي نحو250 ريالا للدولار الواحد في سوق الصرف, فضلا عن توقف العشرات من المشاريع الاستثمارية واستنزاف الإحتياطيات الخارجية للبنك المركزي وتوقف إنتاج وتصدير النفط الخام من حقول مأرب وحضرموت وتوقف مصافي تكرير النفط. وما بين الواقع الصعب وخيط الأمل الرفيع والضئيل في إمكان تجاوز شفرة الهاوية بسلام تبقي الأوضاع علي ما هي عليه إلي وقت آخر لايعلمه إلا الله وعلي المتضرر أن يلجأ إلي الفضاء الواسع لإطلاق دعواته بأن يحفظ الله اليمن من الصوملة, وأن يفشل العقلاء كل تكهنات المتشائمين بإعلاء خيار السلام, خاصة مع حلول العيد الحادي والعشرين لقيام الوحدة بين شطري البلاد والذي يصادف22 مايو ويتطلع اليمنيون إلي أن تكون ذكراها أسمي من محنة الصراع علي السلطة وأن يجتازوا بقطار التغيير المنشود بر الأمان بأقل الخسائر الممكنة. الاهرام المصرية