تبدو هزيمة المليشيات في مجال الحقوق الإقتصادية للمواطنين ساحقة ماحقة. مع تسليم مرتبات الموظفين المدنيين في العاصمة صنعاء يكون قد استقر في وعي المرتبطين بالمدينة الفرق بين السلطة الشرعية وسلطة مليشيات الإنقلاب والحرب والإنفصال. رسم معالم الصورة الفارقة احتاج لقرابة السنتين، هو زمن طويل، لكنه في عمر الشعوب قصير، بخاصة في ظروف عاصمة محاصرة بآثار مزمنة من نتاج الإقطاع القبلي والعسكري. إبتلع المليشاويون الكبار السنتهم، ولم يعد بإمكانهم الإدعاء، على سبيل المثال، بأن المرتبات أموال مدنسة أو جزء من مؤامرة صهيونية !. لا مستقبل للمليشيات، اذاً. هذه خلاصة المؤامرة الدامية التي يواجهها المجتمع اليمني اليوم. عندما كان إعلام الإنقلاب والحرب يروج لمشروعية محاولة الانفصال عبر الحشد الجماهيري في ميدان السبعين (في العشرين من اغسطس 2016) كان الإعلام في الواقع يروج دون أن يدري لتشييع الإنقلاب الى مزبلة التاريخ. من يومها عجزت سلطة الإنقلاب والحرب والإنفصال عن توفير المرتبات والمعاشات، أو بالأحرى امتنعت عن ذلك، مكتفية بالمشروع الأثير إلى نفسها والذي لا تجيد غيره "مشروع النهب المقدس تحت مسمى المجهود الحربي". فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن لعصابة نهّابة كذّابة أن تبني دولة ولا هي تفكرُ في ذلك. أضحى جليا أن العصابات تملّكت المؤسسات الإيرادية، واستأثرت لنفسها بموجودات البنك المركزي، وتفرض على القطاع الخاص إتاواتٍ دورية لا يمكن احتمالها، فوق أنها تتاجر بالمعونات الغذائية المقدمة من الخارج. لم تكتف المليشيات بالمتجرة بالمشتقات النفطية، التي أثرت منها ثراءً فاحشاً، بل ذهبت إلى تكوين شركات نفطية خاصة، طبقاً لما كشفه الصحفي الإستقصائي محمد العبسي، دافعا حياته ثمنا للحقيقة. وكما فشلت المليشيات في دفع حقوق المدنيين في المرتبات فشلت عملياتها الارهابية في تفجير طوابير المجندين أثناء تسلم مستحقاتهم المالية عن إيقاف الإنشقاقات عن صفوف مقاتليها في أكثر من جبهة، خاصة القريبة من مدينة مارب، وكانت قمعت بالرصاص الحي احتجاجات منتسبي الجيش والأمن في ميدان التحرير، وتتهم أي محتج بالداعيشة والعمالة. فشل هذا القمع مع الأكاديميين في جامعات ثلاث على الأقل، في مؤشر على فشل مشروع النهب ممثلا في استمرار حكم العصابات. دفع الشعب اليمني ثمناً باهظاً لإفشال مشروع المليشيات، وما يزال يدفع، لكنه ثمنٌ واجب الدفع، فلم يكن من خياراته بل مفروض عليه. بعد استكمال المليشيات للإنقلاب والإستيلاء على مخازن السلاح الثقيل والغزو الإستعلائي للمحافظات لإجبارها على الخنوع، لم تكن المقاومة بالقوة قد تشكلت إلا بكتيبتين او أقل من اللواء35مدرع في تعز، غير أن الرفض الشعبي كان قادراً على تحويل المقاومة السلمية إلى بسالة استشهاد لاتهاب فوارق العتاد. سفكت المليشيات الدماء في كل المحافظات التي غزتها، فبدت طبيعتها الإرهابية عارية، وسقطت شعارات الزيف التي حاولت التستر بها، ولم يعد يصدقها إلا قلة من المغفلين. استغل قادة المليشيات فقر فطاع ملحوظ من المواطنين وجهلهم ودفعوا بهم إلى جبهات الهلاك اليومي التي انفكت تتوسع من أبين حتى الحديدة . بتحرير المحافظات الجنوبية استقرت المواجهات على الحدود الشطرية السابقة، من قعطبة حتى الوازعية، باستثناء الصراع على بترول عسيلان، لكن هزائم المليشيات توالت، باستمرار انتفاضة محافظة البيضاء، وتحرير معظم محافظتي مارب، والجوف، والوصول إلى مشارف صنعاء. وكما أدى تحرير ميناء ميدي إلى سقوط أوهام تحويل صعدة إلى مقاطعة خاصة، رمز تحرير ميناء المخا إلى سقوط سلطنة التهريب الخاصة التي واظب علي صالح على بناء صرحها منذ سبعينيات القرن الماضي في مؤشر على سقوط سلطانه في الراهن والمستقبل. كشف تعطيل مباحثات سويسرا والكويت عن رغبة المليشيات فرض أمر واقع : الحفاظ على إرث مساحة الإمام أحمد ومفاوضة الشعب اليمني عليها مقابل الحصول على نصف السلطة والثروة كحصة طائفية. مؤقتا، سوق قادة المليشيات أنفسهم لدى بعص اللاعبين الإقليميين والدوليين كممثلين لشمال اليمن أو بالأحرى لشمال الشمال ( نموذج مهرجان ميدان السبعين). وجاءت مبادرة كيري، الوزير السابق للخارجية الأمريكية، لتلبي رغبة إبقاء المليشيات لاعباً مطواعاً على مسرح الأحداث، لولا أن تفاصيل الصورة اليمنية كانت قد أعلنت عن نفسها تباعاً، ومنها أن الآلاف من أبناء الهضبة الشمالية يقدمون أرواحهم ودماءهم في ميادين الإنعتاق من ربقة المليشيات، في دحض فاضح لدعاوى التمثيل الجهوي والسلالي. في الواقع ،كان نظام علي عبدالله صالح حصر الإنتساب الى اداة بسط النفوذ (قوات الجيش والأمن) على أبناء القبائل الشمالية للحفاظ على مشروعه الخاص في توريث الحكم، وعمد إلى تبني خطاب إعلامي يكرسه زعيما يقترب من الآلهة، بيد أن ما يزيد عن نصف منتسبي قوات الحرس الجمهوري، كما تفيد بعض المعلومات، لم يشاركوا في المغامرة الدموية الراهنة. يسخر الأهالي في محافظة عمران، على سبيل المثال، من قناة المسيرة الفضائية عندما تعرض تأكيدات "أطفال الحوثي" كما يصفونهم بأنهم لم يذهبوا إلى محافظة تعز، الا لقتال إسرائيل! ويلهج الأهالي بالإمتنان لمقاومة تعز التي خلصتهم، كما يقولون، من اللصوص و"الدشر" في إشارة إلى المراهقين غير الملتحقين بالمدارس والعاطلين عن العمل. نظريا،ً ألقت الجغرافيا الطبيعية بظلالها على أنماط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية للسكان في الهضبة الشمالية، فساعدت التضاريس الجبلية على عزل السكان والإبقاء على البناء القبلي متماسكا يسود فيه الإقطاع القبلي، بحسب توصيف الدكتور محمد علي الشهاري، بالإضافة إلى سمة الإقطاع العسكري والعلاقات والعسكرية القتالية حيث المشايخ والنقباء يمتلكون القدر الأكبر من أدوات الإنتاج في القبيلة كما يحتلون مكانة عسكرية تجعلهم أكثر قدرة في السيطرة على بناء القوة (انظر : د. عبدالملك المقرمي : التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية.ص 154 ). استفاد الأئمة من البناء القبلي فجعلوا مشايخ القبائل قادة لجيوشهم ،حيث يسهل حشدهم للقتال، بحسب تقاليد " الداعي " و" النكف " و" النفير " وتحالف الأئمة ومشايخ القبائل لضرب التمردات الفلاحية في مناطق الزراعة الخصبة مثل تهامة، تعز، والمناطق الوسطى، مقابل عائدات مالية، أو السماح لهم بغزو القرى الفلاحية ونهبها. الجيش البراني في زمن الإمام يحيى ونجله أحمد لم يكن يتسلم مرتبات بل يعيش عالة على القرى الفلاحية عبر " التنافيذ " أي أوامر الإخطار والإحضار لتسديد المكوس والجبايات الرسمية. تابع علي صالح إجراءات الأئمة، وزاد عليها سياسة الفساد والإفساد من أجل إدامة البقاء في سدة الحكم وتوريثه، فسمح لضباط الجيش والأمن نهب الأراضي والزج بملاكها في المعتقلات والسجون وكأنهم أمام خيارين: الخنوع أو القتل والتنكيل. لاحظ الشيخ الظريف عبدالعزيز الحبيشي كيف تحول الضباط والجنود في محافظة إب إلى عصابات نهب وقتل من أجل الاستحواذ على أراضي وعقارات المواطنين بالقوة والاحتيال والتزوير، فأطلق، في تسعينيات القرن الماضي، تعليقه الشهير :" الأرض مقابل السلام" في مقارنة مفحمة بين موظفي علي صالح والمحتلين الإسرائيليين في فلسطين العربية، وعلى الأحرى لاحظ وجود نسخة يمنية من مبدأ الأرض مقابل السلام الإسرائيلي. الأمثلة كثيرة، لكن أشهرها ما أبرزه الحراك الجنوبي من أن نافذي نظام علي صالح استولوا في الجنوب بعد حرب94على عقارات تزيد مساحتها عن مساحة دولة قطر. وفي محافظة الحديدة، كشفت لجنة لتقصي الحقائق من مجلس النواب عن نهب النافذين والضباط والجنود لمساحات تقدر بآلاف الكيلومترات وتشريد مالكيها. أحد أقارب علي صالح استحوذ على 258 كيلومترا مربعا. لكن الفضيحة مرت بسلام. طبق نظام علي صالح شعار : "دعه ينهب دعه يمر " في كل المجالات، وباع، مثلا، الغاز المسال بيعة سارق، في صفقة شهيرة بأقل من ربع الأسعار في السوق العالمي، وكوّن علي صالح ثروة شخصية قدرتها الأممالمتحدة بستين مليار دولار، أي ضعف ثروة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. تمكنت ثورة الشباب السلمية من خلع علي صالح من علىكرسي الحكم وأخرجته من دار الرئاسة في صنعاء لكنه عاد إليه من النافذة ،عبر تحالف الإنقلاب والحرب مع عبد الملك الحوثي ،في ثورة مضادة تنتقم من ثوار فبراير ،وما تزال رحى حربها دائرة على رؤوسهم حتى اليوم. تنفذ مليشيات الثورة المضادة سياسة "الأرض مقابل السلام " كما ورثته وخبرته، فغزت المحافظات بالقوة، في محاولة لفرض شروطها غير المعلنة : من يرد السلام فليقبل بالاستيلاء على الأرض، الاستيلاء يعني هنا الهيمنة، وبالتالي الاستئثار بالسلطة والثروة ،مكثفا في خيار: إما أن أحكمك أو أقتلك. ولأنها مرفوضة عمدت إلى تدمير المدن والقرى ناشرة القتل في كل مكان. تهدد بالعودة إلى احتلال الجنوب بزعم أنه محتل وتفاوض على اقتسام السلطة والثروة مع أبناء الجنوب بزعم حصتها الطائفية. تنهب الموارد المالية في المحافظات التي تسيطر عليها وتمتنع عن دفع المستحقات للموظفين في السلكين المدني والعسكري ومستحقي الضمان الاجتماعي. حولت أصحاب الحق إلى متسولين وتهدد بقتل المحتجين. لكن من حيث أرادت إذلال الشعب جاءت هزيمتها الفاقعة. سلمية ،هذه المرة ، غير أنها ساحقة لهيمنة العصابات على صنعاء وماحقة لأحلامها الاستمرار في الحكم. في2011ثارت صنعاء أم الدثور ( أي القبور ) نزولا عند صرخة الفيلسوف عبدالله البردوني ،فعاقبها علي صالح بأن أدخلها قسرا في صندوق إيران ، بثمن بخس ،لكن لم تمت في حشاها أشواق الغد في دولة مدنية ويمن اتحادي. إنها حبلى وستلد، مهما طالت آلام المخاض.
قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة @aleshterakiNet