نظم نادي ناصية الثقافي, مساء أمس الاحد, ندوة حول اشكالية (التغيير الثقافي أولا أم السياسي), أحتضنها مقر الحزب الاشتراكي في مدينة المعلا في العاصمة المؤقتة عدن. تأتي هذه الندوة ضمن سلسلة ندوات يعزم نادي ناصية الثقافي اقامتها خلال الفترة القادمة, بهدف اثارة النقاش حول القضايا المطروحة على جدول أعمال اللحظة الراهنة. وقال أمجد عبدالرحمن, رئيس نادي ناصية, أن موضوع الندوة يأتي ضمن القضايا التي أصبحت تشغل بال كثير من الشباب المشتغلين بالسياسة والمسائل الثقافية. وأكد أن عدن منذ تحررها قبل نحو عام ونصف, شهدت تغيير واسع, لكن قضايا المجتمع ومشاكله لا تزال قائمة وبحاجة الى جهد بحثي وتحرك سياسي, لكي تترجم التضحيات الى واقع, ومن هذا المنطلق جاء عقد الندوة كمقدمة لنبش قضايا اخرى لها اهميتها في واقع عدن والجنوب اليوم. وقدمت في الندوة ثلاث اوراق تمحورت الورقة الاولى التي قدمها الشاب أحمد بغدادي, رئيس مبادرة افاق الثقافية, تمحورت حول اهمية التغيير الثقافي قبل اي تحرك سياسي, حتى لا تتكرر تجارب الألم والفوضى. وركزت الورقة الثانية المقدمة من قبل حسين حنشي, رئيس مركز عدن للبحوث الاستراتيجية, حول اهمية التغيير السياسي, الذي من شأنه توفير البيئة المناسبة للتغيير الثقافي. وجاءت الورقة الثالثة, لبناء مقاربة حول تكامل الثقافي مع السياسي, ليصبح التنوير في خدمة التغيير, قدمها الصحفي والكاتب حسام ردمان. وشهدت الندوة حضورا نوعيا من قبل شباب وشابات مدينة عدن, وتخللها نقاش موسع مع المتحدثين. الاشتراكي نت يعيد نشر الأوراق المقدمة في الندوة ورقة احمد البغدادي - نادي الناصية.. إن التغيير الذي نرجوه بمعنى الإنتقال من حالة اجتماعية إلى حالة أخرى أكثر تطوراً.. وصولاً إلى النهضة أو الاقلاعة هو هاجس يتملك الكل.. وغاية عظمى يسعى جميع الفرقاء للوصول إليها على إختلاف رؤاهم.. إن ذلك التحول الذي يطرأ على ثقافة المجتمع.. ليطال فروع تلك الثقافة من فكر وفن وعلوم وفلسفة.. هو تأسيس حقيقي لنهضة حضارية شاملة.. وهو تمهيد لتعامل أمثل مع أي حركة إصلاح سياسي..سلمية كانت أم راديكالية.. قد يصدق القول بأن الناس على دين ملوكهم.. وأن التغيير على مستوى السياسة.. بما يخدم ويصب في حل مشكلاتنا الراهنة كالفقر والجوع والبطالة وتفشّي الأمراض وهجرة العقول العربية الإبداعية الخلاقة..سيمهد الطريق وسيفتح الأفق لتغيير ثقافي على جميع المستويات.. حيث يمكن للأفراد أن يتقبلوا كل حراك ثقافي.. طالما توفرت لهم حياة كريمة.. وحلت مشكلاتهم التي تؤرقهم.. إذ كيف تقنع ذلك الذي يقبع تحت خط الفقر أن يقرأ كتاباً.. أو يتقبّل فكراً جديداً.. وهو المفتقد لأدنى حقوقه كإنسان.. في ظل سلطات أجرمت بحق شعوبها ولازلنا نعاني من عبثها وهي تتعاقب على رؤوسنا.. في ظل تلك الأجواء القمعية التي بلغت مداها.. لم تجد الشعوب العربية غير أن تصرخ في وجه الحاكم الإله.. وتطالبه أن يرحل وترحل معه ديقراطيته الزائفة.. لتؤسس ديمقراطيتها هي التي لاتقل زيفاً عن سابقتها.. "لاتتحمل الأنظمة العربية إنتخاباً حراً.. ولكن الشعوب العربية لاتتحمل رأياً حراً" كما قال المفكر الكبير جورج طرابيشي.. وما رأيناه من ثورات الربيع العربي.. وما خلفته من حروب ودمار وجراح تأبى أن تندمل.. هو نموذج لذلك التنفيس عن الغضب تجاه السلطة.. والذي لم يصحبه إصلاح وتغيير ثقافي.. يكون بحجم ما طالبت به هذهِ الشعوب.. ثارت الشعوب العربية من أجل إسقاط النظام الإقصائي والقمعي.. لتمارس هي إقصائها وقمعها على بعضها.. ثارت من أجل الجياع والمرضى والعاطلين والمكلومين لتخلِّف أضعافهم.. ثارت من أجل الأجيال القادمة.. لتمسك هذهِ الأجيال سلاحاً لا قلماً.. هنا.. تبرز لنا أهمية التغيير والإصلاح الثقافي.. والذي لابد أن يطال عقلية مجتمعات.. عانت قروناً من الإستبداد والقمع والكبت ومن تجريم الفكر الحر النقدي الإبداعي.. إذ أن أي حركة تغيير سياسي لا تصحبها أو تمهد لها ثورة ثقافية وإصلاحات دينية على نطاق واسع وجريء.. هي مجرد صيحات غوغائية لاتلبث حتى تشعل ناراً تحرق الأخضر واليابس وتأكل الحرث والنسل.. وما يحصل في منطقتنا من حروب وصراعات طائفية.. وما يسود الساحة السياسية ويتصدر المشهد الثقافي من عدم وعي لسنة الإختلاف الكونية.. وعدم قبول للآخر المختلف بالرأي.. وتراشق بالإتهامات بين الفرقاء.. إن هو إلا تعبيراً عن ثقافة شعب سكت دهراً.. ونطق كفراً.. إن الحديث عن تغيير سياسي بدون مواجهة للأيديولوجيا الأصولية ومحاولة الإنعتاق منها.. هو ما أوقعنا في هذهِ المجازر الطائفية.. التي امتد أثرها في الماضي ومازال يمتد ليصل أثره لأجيال ستفقد حقها في التعايش..وستظل أسيرة للخطاب الطائفي المحرّض الذي يلقى قبولاً من الشارع.. ككل أيديولوجيا أصولية تجد رواجاً لها من الجموع فتقمع الصوت التحديثي المتجرد منها.. قبل الثورة الفرنسية عاشت اوروبا قروناً إقطاعية استبدادية أصولية.. فجاء التنوير الفلسفي ومن ثم لحقه الإنفجار الثوري.. لتنفرج الأزمة الظلامية.. تلك المعركة التي خاضها الفلاسفة التنويريون أمام الأصوليين أصحاب التأييد الشعبي.. والجماهير العريضة.. انتصر بها النور في النهاية وانطلقت اوروبا نحو الحداثة.. وهي المعركة التي يجب أن يخوضها المثقف العربي التحديثي ضد الأيديولوجيا الأصولية التي تحضى بتأييد الشارع وتترسخ بأذهان بعض المثقفين.. تلك الأصولية التي لاترى سواها.. في الواقع نراها مترسخة في مشهدنا الراهن.. بمختلف التوجهات التي لا تقبل الشراكة وتعلي الصوت الواحد والفكر الأحادي الذي لا يقبل رأياً حراً.. إن معركة التنوير تتطلب منا أن نحترم كل توجّه يسعى للنهضة وإن اختلفت السبل المؤدية إليها.. وأن يكون الشعب هو رهاننا الأعظم.. وأن نفتح الآفاق للشراكة.. وأن نواجه الفكر بالفكر.. ونترك الفكر الإقصائي الذي يحطم صنماً ليبني آخر.. يبدأ التغيير من أنفسنا.. يقول تعالى: {إن الله لا يغيّر مابقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}.. ذلك التغيير في المحتوى الثقافي بأبعاده العقدية والمعرفية والسلوكية والإجتماعية هو ما نحتاجه للخروج من هذهِ القوقعة.. إذ أن وظيفة الثقافة في المجتمع كوظيفة الدم في الجسم كما شبه مالك بن نبي..حتى يصل المجتمع للحظة الفارقة التي تؤهله للتعامل مع الإضطرابات والتغيرات السياسية التي تطرأ على المنطقة.. ليتعامل معها بحكمة بعيداً عن الضوضاء والضجيج الذي ورث خراباً وحرباً وشراً.. ورقة حسين حنشي أولوية التغيير السياسي على الثقافي في الحالة اليمنية تمهيد بمفهوم بسيط يمكن القول أن الفعالية الرائعة هذه تسعى "اصطلاحيا" لنصع رؤية عن أولوية "التغيير الثقافي" أو التغيير السياسي في مرحلة مابعد الحروب أو حتى مرحلة "الحرب الراكدة" أو الآسنة في الفترة الحالية في اليمن. وهذا التعريف لما تريد منه الفعالية يعفينا من الخوض أكاديميا في الفروق والأولويات بين المتغيرات السياسية والثقافية "أو المجتمعية في المجتمعات" وهي مفاهيم بينها بون شاسع وحالات تختلف اصطلاحيا حقيقية عن ما نريد الخروج به هنا. فمثلا لو كانت هذه الفعالية تسعى أكاديميا وبصورة دقيقة لوضع تصور عن أولوية التغيير المجتمع أو التغيير السياسي فمعنها نتحدث عن خطط طويلة وعن مراحل في حياة امة نتيجة أن "التغيير المجتمعي " أو الثقافي يحسب في حياة الأمم بعقود من السنين أو حتى بالقرون. عندما يقدم أكاديميا ما على دراسة التغييرات الثقافية أو المجتمعية في حياة الأمم يسوق أمثلة من قبيل التغييرات في المجتمع الإغريقي أو الحضارة الصينية أو الهندية أو المصرية وفي اقرب الأمثلة يسوق مثال للتغيير في "عصور الشك " الأوربية بين القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر وما أثرته على التحولات السياسية والصناعية في بنية البلدان والأوربية وسكانها. لهذا هنا نحن أمام فعالية تحصر النقاش في الحالة اليمنية وفي اصطلاحات لاتعني دقة أكاديمية عندما نتحدث عن التغيير الثقافي بل تعني أن يقوم الشباب المثقفين بالتأثير لصنع حالة استقرار أو أنها الحروب فقط وهو بالمحصلة يصب في خانة "الجهد السياسي" لشريحة المثقفين ولا يوصف "بالتغيير الثقافي". وعندما نتحدث عن التغيير السياسي هنا كذلك لانعني التغيير للبينة السياسية في مجتمع صحي سياسي أو حتى قابل للتحول نتيجة عوامل صحية بل نتحدث عن بلد مأزوم وممزق وفي حالة حرب وتدخل إقليمي ودولي ومشاريع معلنة للقوى المتصارعة لهذا حتى التغيير هنا ليس وارد بل يمكن الحديث عن الضغط للنخب لإرساء مشروع ينهي الحرب ودعم جهود الأممالمتحدة ثم يمكن الحديث بعد الفترة الانتقالية عن "إطار سياسي للبلد" يرضي جميع جهاته وجغرافياته وديموغرافيته السكانية. دور النخب في استقرار سياسي اعتقد أن الدور الحيوي الذي يمكننا الحديث عنه للنخب في البلد هو "إن تصنع استقلالا" عن القوى المتصارعة أيا كانت وان لاتدور في فلكها وان تكون ضمير للبلد وان تضغط بكل وسائلها لإرساء سلام في البلد ككل قبل الحديث عن إي تغيير في البينة السياسية فيه وقبل الحديث عن إي تغيير ثقافي كذلك وهو تغيير بعد المدى. فشلت النخب في اليمن في أن تعزل نفسها عن المتصارعين وتقسمت النخب على المتصارعين وجيرت إمكانات المثقفين والإعلاميين لخدمة الرؤى المتضاربة وهذا افقد النخب قدرتها على إن تكون ضميرا حيا ولوبي ضغط خيري لصنع مجتمعا سليما. لهذا في اعتقادي إن المقفيين في هذا البلد بحاجة إلى الاستقلالية ثم العمل على مساعدة الأممالمتحدة في إرساء السلام في البلد وإيقاف الحروب قبل إي حديث عن "الخطأ والصواب" . إما إن تحدثنا عن "التغيير السياسي" فهنا لاحديث عن "جسد سياسي" سليم لبلد يمر بفترة صحية ونحن كمثقفين نعمل على إيجاد تغيير سياسي في الآلية أو في الكيانات الفاعلية. مثلا يمر المجتمع التركي والأطر السياسية والية الحكم "بتغيير سياسي" وهو التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي وبطرق سليمة وعبر آلية دستورية وان أتى الأمر من اجل بقاء الرئيس اردوغان وتحكمه في تركيا لكن يمكننا تسمية ذلك تغيير سياسي. إما في اليمن فلا يمكن الحديث عن "تغيير سياسي" بل عن "فترة مباعد الحرب" وهي فترة ليس كما ما قبل الحرب وهي حرب صنعت توازنات جديدة وقوى جديدة وشرعية ارض لقوى صنعت انتصارات حقيقية كما تركت قوى تقليدية تذوي وقد لاتكون في مستقبل اليمن. لايمكننا الحديث بعد التغييرات الحاصلة عن "التروكيا القبلية العسكرية الحزبية" الحاكمة في اليمن منذ أكثر من نصف قرن بين قبيلة حاشد وال الأحمر وجماعة علي محسن وعسكره ودولة على صالح ونظامه" كل ذلك انتهى هناك قوى جديدة يمكن أن تكون لاعبا في مستقبل اليمن ويجب إن يسمع صوتها وان تفرض شروطها طبعا كل ذلك بعد فترة انتقالية. في هذه الظروف لايمكننا إن نتحدث عن "تأثير ثقافي " على المشهد السياسي مطلقا في وضع تأتي فيه الثقافية بمفهومها البسيط في ادني سلم الاهتمام ليس للسياسيين فقط بل حتى للمواطنين وتفقد تأثيرها في الشارع وفي اطر الشأن العام من أحزاب وقوى فاعلة عسكرية وتنظيمية. التغيير الثقافي متى يأتي؟ يمكن الحديث في اليمن عن دورا للمثقفين بعد الفترة الانتقالية والاستقرار السياسي في البلد ويمكن للمثقفين والنخب إن تضغط لإيجاد "بيئة سلام" عن طريق الضغط لإزالة بؤر الاحتقان ودواعي الظلم لمناطق بعينها وكيانات بعينها وان يشعر كل إنسان في هذا البلد انه يأخذ حقه وانه ليس مواطن من الدرجة العاشرة. البلد بحاجة جهد نخبوي كبير لتوعية السكان بضرورة التعايش والى محو سنين الحشد والتحشيد الكل ضد الكل والى إرساء المواطنة وإيجاد بيئة تسامح وعدالة انتقالية ووزن حقيقي لكل القوى. التغيير الثقافي يجب إن يتم في اليمن عبر جهد للجميع لصنع مجتمع يقبل بالجميع ينهي الحديث عن الطائفية وعن المناطقية وعن الانطباعات المسبقة عن أهل منطقة بعينها ويرسي اتجاه للعمل والإبداع والازدهار. حسين حنشي رئيس مركز عدن للبحوث الاستراتيجية والاحصاء ورقة حسام ردمان التنوير في خدمة التغير: نحو مقاربة لتكامل الثقافي مع السياسي.. خلف سؤال الندوة حول اولوية السياسي او الثقافي يختبئ هاجس حقيقي عن اشكالية التغير الاجتماعي. الشق الابرز من السؤال يحيلنا الى سجال تاريخي عن ايهما اسبق :الفكرة ام المادة ؟ وقد انبرى ماركس في لحظته الى حسم هذا السجال عبر ما اصطلح عنه "بالجدلية المادية" ، حيث اثبتت التجارب التاريخية للأمم بأن التحولات الجوهرية للمجتمعات الانسانية لم تكن وليدة الافكار المثالية التي بادر المفكرون والفلاسفة الى طرحها ، او رهينة الارادة الجمعية او الفردية التي حركتها الاحلام والطموحات ؛ بل جاءت نتاجاً طبيعيا للتحولات الطبقية في البنى التحتية لأي مجتمع والتي حفزتها المظالم والمصالح بشكل رئيسي لذا يبدو ماركس محقاً حين يقول بأن "الوجود الاجتماعي هو من يشكل الوعي". اذن فالرهان على نسق تغيري محدد سواء كان سياسي او ثقافي ، يستدعي اولا الاجابة الشافية عن ماهية المجتمع المستهدف من التغير ، وفهم دينمياته لاستنتاج الوسيلة الانجع لتغيره. كما ان الاستفادة من التجارب التاريخية لا يعني الاكتفاء بها دون التدقيق في خصوصية المجتمع اليمني الذي يحتكم بالضرورة الى دينميات معقدة ، ولا يسري في فلك المجتمعات الرأسمالية والتي تعرف بتمايزها الطبقي الحديث ، بل هو مجتمع ماقبل رأسمالي بتحرك تقريباً ككتلة واحدة لا تنقسم بشكل افقي على اساس طبقي ، بل تشطرها تمايزت عمودية منها المناطقي ومنها المذهبي ومنها القبلي. لذا فإن مجتمعاتنا التقليدية لا تسري عليها الوصفات الجاهزة للتغير النخبوي ، كمن يريد ان يطور اليمن مثلا بوحي من تجربة فولتير وتثويره لفرنسا ، صحيح ان الافكار والاحلام تشكل المجرى النظري الذي تتحرك فيه المجتمعات والجماهير لكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية هي ما تمثل العين التي تتدفق منها تغيرات التاريخ الكبرى منذ ان قرر اجدادنا الأوائل النزول عن الشجر واكتشاف النار ، الى الثورة الصناعية التي استولدت الثورات الديمقراطية والاشتراكية. من هنا فانه توجب علينا الانطلاق من نقطة البداية التي وضعها القائمون على الندوة ، وهي "اشكالية التغير الاجتماعي" ، وقد وفق رفاقنا الى اختيار مصطلح اشكالية ، لما يحمله من دلاله مغايرة عن مطلح مشكلة ، والمشكلة اصطلاحاً هو ما امكن الوصول فيها الى حل يلغيها ، الا ان الاشكالية تمثل شكل العلاقات المعقدة التي نسجتها مجموعة من المشاكل داخل اي فكر سواء فكر فرد او جماعة ، بالتالي فان المشكلة تبحث عن حل والغاء ، بينما الاشكالية تبحث عن نظرية واستقرار فكري يطرح امكانية حل مجموع المشاكل المكونة لها بشكل متوازي ومتوان. وفي مجتمعنا اليمني تقابلنا مجموعة معقدة من المشاكل منها الاقتصادي كالفقر والبطالة ومنها الاجتماعي كالمناطقية والقبلية ، ومنها السياسي كالاستبداد والعنف ، ومنها الثقافي كخطاب الكراهية والتحريض والرجعية ، وترتيبنا السابق لأنواع المشاكل جاء مقصوداً اذ ان الاجتماعي والاقتصادي هو ما يصنع السياسي ، والسياسي بالعادة هو ما يشكل الثقافي ، ومن ثم تتفاعل هذه المستويات في ظل علاقة جدلية ، قد تغير من مدى تأثير كل مستوى في لحظة تاريخية معينة ، لكنها لا تنفي أولوية تأثير المادي على الفكري. ومحاولة الكثيرين عكس هذه التراتبية يأتي في سياق فهمهم المغلوط للمكنزمات التي تصنع التحولات العميقة ، وهو في جوهرة ردة فعل مزدوجة ،لمجابهة الخطاب الديني من جهة ،ولتقليد النموذج الغربي الليبرالي من جهة اخرى ، وفي كلتا الحالتين لاتبدو وصفة "الوعظ الحداثي" فاعلة او قابلة للنجاح ، اذ انها اولاً ستفشل في مجابهة و"عظية أخروية" تتقوى بالجنة والنار والبترودولار ، و ثانياً ستعجز عن مجاراة النموذج الغربي عملياً طالما انفصل خطابها الثقافي وقضاياها النضالية عن حقيقة الاحتياجات الاجتماعية ، لذا نلحظ معظم الكتاب و الناشطين الحداثين لا سيما في اليمن ، يصرفون جهدهم الى محاربة القات او خلع الحجاب او زواج الصغيرات بدل الاضطلاع بقضايا التنمية والديمقراطية ، وهي "شكلانية حداثية" لا تختلف في جوهرها عن "الشكلانية السلفية" المشغولة بفرض الحجاب وتزوج البنات من سن التاسعة. وقبل ان نتبنى او ننتقد الرأي القائل بضرورة العمل الثقافي للتغير الاجتماعي ، وجب علينا توضيح هذا المفهوم لتقيم اهميته وبالعودة الى التعريف الكلاسيكي للثقافة فإنها النسيج الكلي المعقد الذي يكونه مجموع القيم والعادات والافكار والذكريات داخل اي مجتمع ، بالتالي فان ترك مصطلح "الثقافي" على عواهنه ومن ثم ترويجه كنهج نضالي انما هو مزايدة خطابية بنيت على مغالطة لغوية وتسطيح سياسي ، حيث لا يختلف الداعية السلفي في جهده الخطابي عن الداعية الحداثي من حيث ان كلاهما يعمل على الترويج لثقافة ما سواء كانت دينية او ليبرالية ، لذا فان "العمل الثقافي" يندرج في خانته كل جهد يتصل بتغير الافكار والمثل والقيم والمبادئ باعتبار ان هذا التغير الفوقي سيؤدي الى تغير الواقع. ولتجنب الصدام او سوء الفهم ، يجدر بنا الفصل بين الجهد الثقافي من حيث كونه عملاً تنويراً يهدف الى فهم الواقع والتنظير له ومن ثم الانتقال لتغيره ، وبين الجهد "الثقافوي" باعتباره عملاً وعظياً يهدف الى اسقاط المثل العليا والتصورات الايدلوجية المغلقة بشكل ميكانيكي على الواقع ، ما يؤدي لاحقا الى انحطاط الفكرة وتشويه الواقع ، والحال جلي مع داعش مثلا التي شوهت الاسلام واعاقة الانتفاضة الشعبية ، كما ينطبق الحال على المعارضة السورية الليبرالية التي اكتفت بمداخلات الاعلام وبيانات الخارج ومعونة السفارات دون استيعاب الحالة الوطنية السورية وكيفية تغيرها. اذن فلا مجال لدحض اهمية الدور الثقافي في حال كان جهداً تنويراً يهدف الى فهم الواقع وتحليل الصراع . جهد تنويري ينقل تجارب الاخر الغربي او الشرقي لا باعتبارها نماذج حتمية واجبة التقليد بل باعتبارها تجارب انسانية تستحق الدراسة وتقبل التبيئة والتعديل لكي نطبقها في بلداننا ، كما ان الجهد التنويري يعمل على الغوص في التاريخ لفهم سياقاته وحركته وقوانينه دون اعتناقه والسعي الى احياءه من خلال ازهاق ارواح البشر. وبالعودة الى ادبيات علم الاجتماع وتصنيفاتها للثقافة ، فان ثمة ثقافة فردية وثقافة جمعوية وثقافية وطنية او قومية ، الاولى يعنى بها الفرد نفسه من حيث عوامل تنشئته وتوجهاته الفكرية واستمالاته العاطفية ، والثانية تمثل جماعة ما سواء كانت نقابة او حزب او قبيلة او نخبة ، والاخيرة تتصل بشعب او امه في دولة او في رقعة جغرافية واسعة . وبإسقاط هذا التقسيم على مجتمعنا الذي يعاني من نسب مرتفعة في الجهل والامية والذي يمثل الريف 70% من سكانه ، والقبيلة 80% ، في حين ان اغلب هؤلاء السكان يعيشون تحت خط الفقر ؛ يسهل الجزم بمحدودية الجهد التنويري المحصور في اطار الفرد او النخبة ، كحال ندوتنا الان التي تندرج في سياق الجهد الثقافي التنويري والتي تستهدف النخبة المثقفة في عدن. وعليه فان العمل الثقافي التنويري لا يكتسب فاعليته الحقيقية الا بمقدار اتصاله العضوي بالجانب السياسي ، ومن هنا كان المفكر الايطالي "انطونيو جرامشي" قد ابدع مصطلح "المثقف العضوي" ، الملتزم بانتمائه السياسي ، والذي يستخدم ثقافته ووعيه لفهم تناقضات مجتمعه والعمل على تغيره انطلاقاً من مرجعيته الثقافية وادواته السياسية المتمثلة بالتنظيمات الحزبية. ذلك ان الوصول الى السلطة يمثل اضمن وانجع الطرق لخلق تغير اجتماعي واسع النطاق يعيد صياغة البنى التحتية من خلال تنمية متوازنة تقود بالضرورة الى تغير ثقافي جمعي وهادئ باتجاه قيم الحداثة والتعايش. ولنا في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أسوة حسنة ، اذ اعادت الدولة صياغة الوعي الجمعي باتجاه الانفتاح والحداثة والتحضر بفضل ما احدثته من نقلات طبقية مكنت ابناء الطبقات الوسطى وحضرت سكان الريف الجنوبي ، و اوصلت مدارس البدو الرحل الى كل قرية وعزلة. ان الثقافة التنويرية هي قطعا ثقافة علمية ، تدرك المشاكل الحقيقية وتقترح الحلول الموضوعية وتعي جوهر المطالب والمصالح الاجتماعية ، واتصال السياسية بالتنوير يجعل من السلطة وسيلة للنهضة والتنمية عوضا عن كونها مجرد مغنم ، وينقل الدولة الى مستوى مسؤوليتها الوطنية لإنجاز التحولات الاجتماعية بحيث لا تغدو اداة قمع طبقي او عصبوي. ومقابل السلطة فان الممارسة السياسية من موقع المعارضة هي الاخرى لا تغدو عملا خلاقا الا بانطلاقها من مرجعية تنويرية تجعلها اكثر عقلانية وانتاجية. خلاصة الكلام فإن الفصل بين الثقافي والسياسي يعني تحويل الثقافة الى وعظ وتحويل السياسية الى بلطجة.. للعمل الثقافي اهميته التي لا تهتز بأي حقبة او مرحلة ،و للعمل السياسي اولويته التي تحتمها اللحظة التاريخية الراهنة .. والمساران يتكاملان ولا يتصادمان متى ما تناغما ما حركة التاريخ وطموحات الجماهير.. وباستخلاص اخير ،فان مصطلح "العمل الثقافي" لا يعني بالضرورة كل ما هو ايجابي ؛ قد يكون وعظا مفرغاً وقد يكون تنويراً مسؤولاً ؛ الاول يقوم على التحريض والتعئبة، والثاني يقوم على الفهم والتحليل .. الاول تغذيه الايدلوجيا واليقين ، والثاني ينميه العلم والحس النقدي .. الاول يحتاجه الديكتاتور و رجل الدين ، والثاني يتوسله المناضل الوطني والسياسي الديمقراطي. قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة @aleshterakiNet