الخميس , 27 يوليو 2006 م الحرب الظالمة على لبنان تثير في نفسي شخصياً مرارة من الألم والغضب لما يجري فيها.. فلقد عشت فترة الدراسة الجامعية حتى الحصار والاجتياح الاسرائيلي عام 1982م في بيروت عندما كنت أعمل في مجلة «الأفكار» بعد تخرجي من الجامعة اللبنانية.. وبعد أن غادر المدينة من أعرفهم ومن لا أعرفهم، وكان آخرهم «أبو خليل» صاحب البقالة المجاورة لمنزلي، وقد كتب يافطة على باب بقالته تقول: «مغلق بداعي الهجرة إلى أمريكا» بينما غادر المدينة أناس كثر، كان ثمة من بقي صامداً يقاوم عناقيد الموت الاسرائيلية ويصدّ كل ألوان الصواريخ الموجهة إلى الأمكنة والمساجد والأديرة والحدائق التي أحالت ظلام الليل إلى وهج مخيف، وسماء النهار إلى غيوم من «المنشورات» التي تثير في النفس الرهبة وهي تشير إلى الطرق الآمنة للمدنيين الراغبين الخروج من بيروت. أنت تقرأ وجوه الهاربين من هذه الحرب القذرة وقد ارتسم على ملامحهم الذعر والخوف، لكن ثمة رجالاً هناك يقذفون هذا الخوف بحمم النار، حيث يبعثرون أحلام القادمين ويحيلونها إلى كوابيس. وكان ثمة صور ترسم لوحة رائعة وسط هذا الدمار تراها هناك في أنحاء بيروت تقدم شيئاً غير موجود خلال الحرب، فبعد أن صمتت «الكهرباء» هناك من يمد إليك شمعداناً يضيء أمامك مدخل الملجأ لتتلمس طريقك، وكل الوجوه تلحظ نظرات الحيرة في عينيك. وبعد أن هجرت المياه أنابيبها، وأغلقت المتاجر أبوابها، وتبعثرت فرص الحصول على رغيف العيش ثمة من يقف إلى جوارك يبحث فيما يخصه ليمنحه لك. وبعد أن أصاب الصحف الصمت المطبق، حيث لم يعد بمقدورك قراءة صحيفة الصباح ثمة من ينتفض ليمنحك لذة القراءة غير عابئ بقذائفهم القادمة من البعيد! الأزهار التي يصطادها الرصاص في المساء تعود إلى أناقتها على المزهريات في بيوت البيروتيين عند صباح يوم جديد.. والشوارع الخالية من الركض على الرمال البيضاء في (كورنيش) المدينة وأزقة مداخلها تعود نابضة بالحياة غير ابهة بغبار سرعان مايتلاشى في سماء ممتدة بلا حدود. أشتاق إلى تلك الأيام والليالي التي ينداح منها عطر المعركة لترى الأشياء كما هي ، حيث يتحلق الأصدقاء حول مدفأة واصواتهم آتيه تبحث في حكايا الطفولة وضحكاتهم الوارفة تمجد الصمت كطلقة صارخة في فضاء خوفهم من العاصفة الآتية. أنت تقرأ صورة الخوف والحزن والألم عن بُعد تبحث في الأسئلة وتدين أزيز الطائرات والركام النازف من خاصرة اللبنانيين، وتقوم لتعيد مشاهدة الخوف فيشدك الحزن ويتركك أسير الحيرة لا تقوى على شيء حتى مجرد الذهاب في نزهة تحت «حظر التجوال» لكن ثمة ما يجول في الخاطر ان تعود مرة ثانية. وحدها بيروت تصمد وحدهم اللبنانيون يعمّدون انتصار الضوء على الظلمة، والحقيقة على الأقاويل.. ويكتبون بدمهم النازف قصيدة لم يجرؤ أحد على كتابتها منذ أن بدأ الكلم.