لكل حدث تاريخي أثره وتأثيره إنْ سلباً وإنْ إيجاباً ومهما گان حجمه، ولگل واحد منا طبيعته الخاصة في التعامل مع هذا الحدث أو ذاگ ، و في غمرة احتفائنا يمنيين وعرباً بالعيد الوطني السادس عشر ليمن مابعد الثاني والعشرين من مايو عام 1990، أجدني مطالباً باستدعاء حگايتي مع ذلگ اليوم التاريخي الخالد. قبل هذا التاريخ.. كنا نحن الوحدويين العرب نتلمس أية بارقة أمل في سماء أمتنا، تمنحنا بعضاً من التفاؤل أو بعضاً من القدرة على استشراف آفاق مانبتغيه في قادم أيامنا، غير أن واقع الحال في حينه وعلى اتساع خارطة وطننا الأم من خليجه وحتى المحيط، لم يكن فيه من بارقة أمل سوى تلك الانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي جرى الالتفاف عليها من وراء ظهورنا. وكنت أتنقل آنذاك بين عاصمة عربية وأخرى بحثاً عن موطئ قدم لي أتخذ منه مستقراً آمناً، على أمل أن تنكسر تلك المعادلة السياسية الرتيبة التي أضنت قلوب جميعنا من كثرة ماجرى تكريسه في عميق دواخلنا بفعلها من مشاعر الخيبة والانكسار، لم تكن بلاد اليمن حينها ضمن قائمة خياراتي الضيقة والمحدودة، بحكم الظروف المحيطة بنا من كل جانب، ذلك أن شخصيتها الوطنية لم تكن قد اكتملت بعد، حيث واقع التشرذم والانقسام بكل ماترتب عليه من تناحر استثنائي طال أمده أكثر مما ينبغي. فإلى أية عاصمة يمنية اتجه، وقد جبلت وجداناتنا منذ أول الوعي على واحدية اليمن أرضاً وإنساناً، حيث مهد عروبتنا وموطن أجدادنا الأوائل..؟! وذات حيرة بالغة انتابتني إلى حد عدم القدرة على ترجيح أي مما لدي من خيارات قسرية على ضآلتها، داهمني صديق يمني قديم بطرح فكرة أن تكون بلاد اليمن بمثابة ضالتي المفقودة. ولأنه يدرك ربما أكثر من غيره استحالة قبولي بمبدأ تغليب إحدى عاصمتيها على الأخرى من الناحية النفسية على الأقل، فقد بادر الرجل بطمأنتي على أسن الوحدة اليمنية قادمة لامحالة وأنه لامجال للتراجع عنها، بل إن موعد الإعلان عن قيامها قد جرى حسمه بالفعل. وكان لابد من أن أثق في صحة ماقاله، لكونه مطلعاً على مجريات الأمور بحكم عمله سفيراً لواحدة من الجمهوريتين اليمنيتين آنذاك في إحدى العواصم العربية، وقد وجدتني منحازاً لفكرته هذه بعدما أفضى بما لديه بين يدي. كان ذلك في مطلع العام 1990، ولم أتردد للحظة واحدة في حسم قرار قدومي إلى صنعاء، ربما كان ذلك بدافع الرغبة في أن أكون واحداً من شهود لحظة اكتمال الشخصية الوطنية اليمنية بعد طول ترقب وانتظار. وما إن وصلت إلى العاصمة صنعاء في منتصف شهر إبريل من العام ذاته.. حتى شعرت وكأنني على موعد مع ما أبتغيه. بعدها بأسابيع قلائل، وصبيحة يوم الثاني والعشرين من مايو.. أفقت على صوت صديق يمني آخر، جاء ليصطحبني إلى حيث الجموع التي احتشدت في مختلف أرجاء المدينة ابتهاجاً ببلوغ أنبل غاياتها، ومن ثم.. إشهاره على الملأ. عندها.. طلبت من صديقي هذا أن يرافقني إلى مقابر الشهداء، وكأنما أردت إبلاغهم على طريقتي بأن تضحياتهم لتحقيق هذا الحلم لم تذهب هباء. وفي غمرة التأثر بالحدث وقد جرى الإعلان عن قيام دولة الوحدة في يمننا الحبيب، اخترق مسامعي صوت ميكريفون قادم من ميدان التحرير لحظتها، حاملاً أغنية الفنان العربي الأصيل محمد قنديل "وحدة مايغلبها غلاب" وهي تدوي في سماء عاصمة دولة الوحدة، وكأن هناك من تعمد تذكيرنا بأجواء زمن الوحدة بين مصر وسوريا مع الفارق. وتختلط المشاعر والأحاسيس في داخلي، وكأنما أضحى من واجبي أن أبرق لعبد الناصر لأطمئنه وهو في رحاب ربه على أن الأمة التي أنجبته لاتزال بألف خير، ذلك أن ماتحقق لإنساننا اليمني صبيحة ذلك اليوم التاريخي الخالد، إنما لايعد إنجازاً وطنياً فحسب، بقدر ماهو إنجاز قومي بكل المقاييس، حيث الفاتحة الأبجدية التي منحتنا المزيد من الأمل في إمكانية بلوغ وحدة وطننا الأكبر. لكل هذا وذاك.. سأظل أعتز دائماً وأبداً بأن كان لي شرف المبادرة بتأسيس اللجنة العربية للدفاع عن الوحدة اليمنية حينما تعرضت وحدة الثاني والعشرين من مايو عام 1990م لخطر التآمر عليها ذات ليل.