ثمة اعتقاد تزداد نفسي قناعة به هو : إنك عندما تكون في اليمن عليك ان تبتسم، لأنك ستكتشف الكثير من الأمور التي كنت تؤمن باستحالة رؤيتها.. في أول وصولي إلى اليمن عام 1991م دهشت أن أرى بيتاً مبنياً فوق صخرة ولايمكن وصوله إلا عبر ممر صخري ضيق، وبالكاد فهمت أن زمان الخوف دفع بالبعض إلى التفكير بطرق حماية بأقل عدد ممكن من الرجال.. في بلد غير اليمن لايمكنك أن تشاهد قطة تلعب مع كلب، لكن قسوة الحياة والطبيعة أوجدت هذه العلاقة الحميمة.. وربما يجد أحدنا نفسه مضطراً لفتح عينيه على مصراعيهما حين تفاجئه بقرة بالتهام صحيفة، وكدس من الأوراق بشهية مفتوحة.. فالجوع «كافر» - كمايقولون - والجفاف لم يبق لأحد شيئاً ليلتهمه.. ! ذات يوم سألني احد ركاب الباص عن عدد سكان الصين، وعندما أخبرته إنهم حوالي مليار وثلاثمائة مليون، عاد ليسألني كم هو المليار، ولماشرحت له سحب نفساً عميقاً وقال : يوووه.. ياليت وأني أقع رئيس الصين ليوم واحد فقط » استغربت من أمنيته، وسألته ماذا عساه سيفعل في هذا اليوم ! فأجابني إنه سيطلب من الشعب أن «يفرقوا من ريال واحد على كل نفر» ثم قال «الريال الواحد مايضر عيشة المواطن». رغم طرافة الموقف لكنني انبهرت لهذه البساطة، فهناك ثمة مواطن يمني متعب الحال يتمنى أن يصبح ثرياً ويعوض سنوات الفقر لكنه في نفس الوقت يفكر إن كان الريال الواحد سيؤثر على معيشة المواطن أم لا !! مقاييسنا للحياة تختل هنا.. وماتعلمناه في بلداننا قد لايكون أكثره صحيحاً.. فاليمنيون لايؤمنون مثلنا بأنه «إذا دخل الفقر من الباب خرج الحب من الشباك».. فالحب هنا يملأ البيوت الفقيرة ، وإنك عندما تستمع لأبيات شعرية من مغارد الزراعة أو غيرها مماتردده النساء في الريف عليك أن تفهم أن كلمة «حبيبي» لم تكن تعني عند المرأة سوى الزوج، وليس العشيق.. فهؤلاء الناس يحبون بشكل فطري كمالو أن الله خلقهم من كتلة حب. الأغرب من هذا كله أن الفقر يجتمع مع الحب، ومع السياسة أيضاً.. !! فالكل يتحدث في السياسة، بما في ذلك الصغار يعودون من المدارس، ويفسرون بعض الأمور أحياناً بمفاهيم حزبية.. فكثيراً ما تتنوع الانتماءات داخل الأسرة الواحدة.. ومهما بلغت حدة النقاش والجدل، والتوتر بين المتحزبين فلا تتوقع انها ستنفجر.. ضع رأسك على الوسادة مطمئناً، وفي الصباح سيجمعك صحن فطور واحد، وربما ستضطر ان تستلف حق المواصلات من صاحبك وكأن شيئاً لم يكن. إذن ابتسم مادمت في اليمن، ففي هذا البلد سر عجيب ليس على المرء البحث عنه، بل التكيف معه فالغرباء يندمجون بسرعة فائقة، وأبو يمن قادر على إقناع أعسر الأوربيين على مضغ بضع عيدان قات .. وتذوق السلتة مع الكدم .. وفعل أشياء كثيرة لاتتوقع انك يمكن ان تأتي بها.. ! أي مسجد في اليمن لاتستطيع معرفة مذهب المصلين الذين فيه.. فلا أحد يكترث لهذا الشيء فالناس هنا تعيش اسلام أيام زمان الذي لايعرف مذهباً أو طائفة أو جنسية ! جميلة هي الحياة اليمنية.. ورائعة هذه البساطة والعفوية.. ومدهشة هذه الأعراف والتقاليد التي يتحلى بها اليمنيون.. لكن السيء هو هؤلاء الذين نسميهم «الديمقراطيون الجدد».. الذين يتعصبون للحزبية، ويتشدقون بما يروجه الغرب لهم من مفاهيم لاتمت بصلة لحياتنا، فتراهم يعكرون سلام المجتمع، ويطمعون بإبدال حياتهم وقيمهم الجيدة بدعوات تقود إلى الفرقة والشتات ! الديمقراطيون الجدد لايضعون اعتباراً لمصلحة وطنية أو سمعة اليمن فتراهم يتبطرون على النعم، ويبثّون شكواهم في كل مكان وأمام كل من هب ودب والبعض تضحك عليهم بعض الجهات الخارجية فيتحولون إلى عبيد لأموالها والفتات الذي تقدمه لهم ثمناً لأجورهم. لماذا لانشد من أواصر بعضنا، وننبذ مايثير فرقتنا، ونبقى نمارس الحب مع السياسة والسلتة، والكدم، ويجمعنا المسجد والمقيل، وظلال بيت آمن لاتطوله رصاصة أو يقلقه خوف كامن.. فأجمل الحياة أن تعيشها مبتسماً في اليمن السعيد !!