ضمن متأرجحات سياسية مختلفة يبني بعض السياسيين رأياً بأن قوام نفوذ أي حزب معارض لايمكن تحقيقه بغير شدة الفعل المناهض لسياسة السلطة الحاكمة ،فيؤسسون على مناطيق ذلك الرأي ثقافة عنف حزبي كل مايشغلها هو تقريع سياسات الدولة ،وملاحقة رموزها ،وانتهاك عذرية أي قيم إنسانية وفكرية ،وأي غايات تنموية مقترنة بقرارات تلك القيادات السياسية. بعض تلك المتأرجحات غالباً ماتقود دعاتها إلى نقيض ينتهك«قدسية» أدبياتهم الحزبية ،إلا أنهم مازالوا يصرون على أن أي خيار غير مايتبنونه سيمنح السلطة فرصاً مضاعفة للاستقواء والهيمنة على مضمار العمل الوطني..فمقياس التحدي هنا منع بلوغ غايات الفعل السلطوي ،واعاقة ادواته بكل ماهو متاح من وسائل. لكن البعض الآخر من السياسيين يجادل بأن معارضة السلطة ينبغي أن تبدأ ببناء سلطة المعارضة أولاً ،وبهياكل تنظيمية متينة ،تجنبها الانزلاق إلى مدارج التماهي ،أوالتهميش على أقل تقدير عندما تصطدم بالسلطة. فالاعتقاد لديهم أن حدود الغاية السياسية في التعددية الحزبية لايجب أن تنتهي عند حرمان الآخر من كسب رصيد وطني ،بقدر ما يجب أن تسابقه لانتزاع كسب مماثل أو أكبر يرجح معادلة القوة لصالح الجهة المعارضة. وفي الحقيقة إن هذا اللون من الجدل بات مفترق تخلف أغلب الديمقراطيات الناشئة في الشرق الأوسط ،نظراً لتسليمها بالخيار الأول ،دونما اكتراث لبحث فرص العمل السياسي من أرضية بدائل أخرى تمنح الحزب المعارض بعض السلطة على توجيه القرار السياسي. فلو أخذنا التجربة الديمقراطية اليمنية نجد أن احزاب وتنظيمات المعارضة أخفقت في بلورة نفوذ ذي شأن ،مؤثر في موازين مطابخ صنع القرار السياسي ،نظراً لاغفالها أهمية بناء سلطتها الاعتبارية التي تضطر الحزب الحاكم لوضعها في حسابات معادلاته السياسية والتنموية المختلفة رغم أن انتظامها في سياق منظومة«اللقاء المشترك» كان يفترض أن يمدها بشيء كبير من السلطة بوصفه خطوة باتجاه خلق تكتلات حزبية ذات ثقل شعبي يكاد يوازي شعبية الحزب الحاكم. فاللقاء المشترك الذي يضم«الاصلاح ،الناصري ،الوحدوي ،الاشتراكي ،القوى الشعبية ،الحق ،والبعث القومي» لم يكترث لمسألة تطوير هياكله التنظيمية ،أو اسلوب عمله السياسي ،ضمن اطار ماتستدعيه ابجديات العمل الوطني لكل مرحلة ،ولعل أكبر عيوبه هو أنه لم يستطع نقل آلية التنسيق المشترك بين احزابه من مربع القمة إلى بقية محاور القيادات الوسطية ،أو ما دونها ،وهو الأمر الذي خوله إلى مكتب صياغة بيانات سياسية ،يتماهى صداها سريعاً من غير أثر يذكر في متأرجحات اللعبة السياسية. إذن مايحدث هو أن سلطة الحكومة تفتقر إلى سلطة معارضة تكفل تقديم برامج أوخطط منافسة ،ومؤثرة في قناعات المجلس النيابي ،أو المجالس المحلية ،أوحتى القواعد الجماهيرية ،وبالتالي فإن الكثير من الأخطاء تبقى ،والكثير من فرص النماء تضيع ،في نفس الوقت الذي تصبح رتابة الأداء السياسي للفريقين عبئاً على العملية الديمقراطية التي كما هو معروف تفقد نكهة وجودها بغير تأرجح نسبي في معادلات مكونات تفاعلاتها بين صعود ونزول. المعارضة تستمد سلطتها من التشريعات الدستورية أولاً وهذا أمر متاح ،ثم من قوة أدبياتها السياسية ،لكن السلطة الأقوى في معترك التعددية توجدها آليات العمل السياسي الوطني ،المترجمة لارادة الحزب نفسه ،وأسلوبه في معارضة سلطة الدولة ،وفي كسب ثقة الجماهير. لكن الملاحظ أن المعارضة اليمنية لم تحتفظ لنفسها بغير سلطتها الدستورية التي تكفل أسباب وجودها، فيما تجاهلت تشكيل سلطة حركية واقعية من العناصر الأخرى لاعتقاد احزابها أن تداول الحكم بين الأحزاب لايتحقق بدون مناصبة الحزب الحاكم العداء التام ،والتنكيل برموزه ،وبرامجه تشويه نوايا كل مايتبناه من قضايا وطنية ،ومواقف قومية ،ومشاريع تنموية وخطط استراتيجية.. على أمل بلورة رأي عام مناوئ له يكفل تفجير الثورة عليه والاطاحة به. ومع أن ذلك قد يحدث فعلاً ،ولكن انطلاقاً من خلفيات مزورة، وتضليل متعمد، وعمل انتهازي ربما يتسبب بانتكاسة مخيفة للوطن ،لأن ماجرى كان على حساب قيم الأمانة ،والصدق ،والعدل ،وفيه انتهاك صارخ للحريات والديمقراطية بل وللأدبيات السياسية التي تجادل بها الاحزاب جماهيرها . ومثل هذا الأمر يعني أن القوة الجديدة لاتمتلك الكثير من المبادئ التي يمكن للجماهير أن ترهن تطلعاتها بها. أعتقد أن اللجوء إلى خيار المعارضة المطلقة للحزب الحاكم من شأن خلط جميع اوراق ديناميكية العملية الديمقراطية ،وتكوين ثقافة ديمقراطية منحرفة ،تبيح كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في بلوغ سدة الحكم. ولاشك أن لجوء المعارضة في أغلب الدول العربية إلى هذا الاسلوب يعد مؤشراً خطيراً ،يؤكد قصور الوعي العربي بالديمقراطية ،وعجز ادواته عن بناء سلطة للمعارضة ،تواجه بها الاحزاب الحاكمة في بلدانها ،وبالتالي فإن معارضة السلطة من أرضية احزاب بلا سلطة حقيقة مؤثرة لايمكن أن يفضي إلى غير الفوضى السياسية وعدم الاستقرار ،وإعاقة العملية التنموية فضلاً عن فرص مضاعفة لتأكيد بقاء العديد من الانظمة غير المرغوب بها على كراسيها. يتوارد إلى ذاكرتي قول الزعيم«نيلسون مانديللا»:«إن المعارضة التي تستهدف النظام برموزه وأشخاصه دون أن تتطرق إلى سلوك النظام وافعاله ،هي أسوأ من النظام إذا ماتمكنت من السلطة».