تطورات خطيرة في حضرموت.. المجلس الانتقالي يلعب بالنار ويهاجم قوات درع الوطن ويصفها بالمعادية    ارتفاع حالات الكوليرا في اليمن إلى 59 ألف إصابة هذا العام: اليونيسيف تحذر    وثيقة تكشف عن مديونية كبيرة للبنوك التجارية والإسلامية لدى البنك المركزي    مسار السلام في اليمن .. اتجاه نحو العودة إلى نقطة الصفر واخر يفتح بصيص تفاؤل وبينهما مشكاة ضوء خافت    - 17مليار دولار ارتفاع ثروة أغنى أغنياء روسيا خلال السته الأشهر من 2024    محلل سياسي يطالب الدول الإقليمية أن تكون سندا للجنوب    - توقعات ما سيحدث لك وفق برجك اليوم الثلاثاء 4يونيو    وديا ... إنجلترا تضرب البوسنة    الرئيس الزُبيدي يوجه بمخاطبة واستكمال إجراءات نقل مقرات المنظمات إلى عدن    معركة بيضاء في كريتر: ما الذي أشعل نار الغضب بين الرجال والنساء ؟    تفريغ الديزل مشروط: عدن تنتظر 24 ساعة لعودة الكهرباء    يكتبها عميد المصورين اليمنيين الاغبري    شقيقة "الحرازي" مدير شركة "برودجي" تكشف عن تفاصيل صادمة أصابت الجميع بالذهول والدهشة خلال جلسة الحكم بالإعدام    "حوثي يقتل ابن عمه ويحرق سيارته: قصة جريمة قتل تكشف الظلام الذي يخيم على صنعاء"    ميليشيا الحوثي تعلن استخدامها لسلاح جديد    نهب وتدمير للاقتصاد الوطني.. كيف يعبث الحوثيون بالقطاع الزراعي؟    الحوثيون يزرعون الموت في الحقول: مزارع يمني يفقد ساقه في انفجار لغم(صورة)    صفعة قوية للحوثيين في قلب العاصمة صنعاء و تجار العاصمة يتحدون مع عدن    "اليمنيون ذولا مثل الخليل العربي الأصيل": الفنان المصري احمد حلمي يُشيد باليمنيين ويُعبر عن حلمه بزيارة اليمن(فيديو)    ايثان يدعم مبابي    الوزير الزعوري ونائب محافظ عدن يضعان حجر أساس مشروع مركز الأطفال ذوي الإعاقة بمدينة الشيخ عثمان    قبائل يافع حضرموت: يرفضون دخول قوات عسكرية إلى ساحل حضرموت غير نخبتها    سلام الله على زمن تمنح فيه الأسماك إجازة عيد من قبل أبناء عدن    من جرائم الجبهة القومية ومحسن الشرجبي.. قتل الأديب العدني "فؤاد حاتم"    الرئيس الزُبيدي يوجّه بمخاطبة المنظمات الدولية لاستكمال نقل مقراتها إلى العاصمة عدن    الترجي التونسي يتغلب على الإفريقي ويقترب من التتويج باللقب    ارتفاع مبيعات شركة هيونداي موتورز بنسبة 1.9 بالمائة    استبعاد مبابي من القائمة الأولية لمنتخب فرنسا الأولمبي    وسط حضور آلاف المشجعين إتحاد النويدرة يحسم موقعة الديربي و يتأهل للنهائي بطولة كرة الطائرة    أغلبها بمناطق المليشيا.. الأمم المتحدة تعلن ارتفاع حالات الإصابة بالكوليرا في اليمن    عودة التيار الكهربائي إلى مدينة مأرب بعد انقطاعه لساعات إثر خلل فني    مليشيا الحوثي تقتحم مكتب حكومي وتختطف أحد الموظفين    وكالة المسافر للحج والعمرة والسياحة بحضرموت تفوج 141 حاجاً إلى بيت الله    غارات مكثفة على رفح والقسام تفجّر ألغام في قوة صهيونية والاحتلال يعلن إصابة 46 جنديا    بحوادث متفرقة.. أربعة أشخاص ينهون حياتهم في إب خلال يوم واحد    خطوات ثاقبة للمجلس الانتقالي تثير رعب قوى صنعاء الإرهابية    محمد البكري و أحمد العيسي وخلال سبع سنوات دمرا حياة شعب الجنوب    الإطاحه بقاتل شقيقه في تعز    خبير آثار: ثور يمني يباع في لندن مطلع الشهر القادم    وفاة ضابط في الجيش الوطني خلال استعداده لأداء صلاة الظهر    إعلان قطري عن دعم كبير لليمن    خمسة ابراج لديهم الحظ الاروع خلال الأيام القادمة ماليا واجتماعيا    حلم اللقب يتواصل: أنس جابر تُحجز مكانها في ربع نهائي رولان غاروس    قرارات البنك المركزي لإجبار الحوثي على السماح بتصدير النفط    تعرف على قائمة قادة منتخب المانيا في يورو 2024    7000 ريال فقط مهر العروس في قرية يمنية: خطوة نحو تيسير الزواج أم تحدي للتقاليد؟    أرواح بريئة تُزهق.. القتلة في قبضة الأمن بشبوة وتعز وعدن    إنجاز عالمي تاريخي يمني : شاب يفوز ببطولة في السويد    الدبابات الغربية تتحول إلى "دمى حديدية" بحديقة النصر الروسية    عن الشباب وأهمية النموذج الحسن    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    من لطائف تشابه الأسماء .. محمود شاكر    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    خراب    الوجه الأسود للعولمة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحن فى المصيدة..الانترنت والخلوى يحاصران الحريات الفردية
نشر في الجمهورية يوم 05 - 02 - 2007

قال بريطانى لصحيفة محلية تصدر فى لندن فى استفتاء اجرى فى الثالث من نوفمبر-تشرين الثانى الماضي: "سيكون من الظريف ان نعرف كم من كاميرات المراقبة سنضع فى الشوارع قبل ان نقوم بتغيير اسم المملكة البريطانية المتحدة الى مملكة الكاميرات المتحدة".
وقال آخر فى الاستفتاء نفسه: "اننا ما لم نقم بعمل شيء لوقف غزو حياتنا الخاصة، فاننا قريبا بالفعل سنجد انه لم تبق لدينا حريات نحميها".
فى ظل ظرف كهذا، هل بقى لعبارة: "الشعب مصدر السلطات" أى معنى؟
لقد كانت هذه العبارة دخلت فى الإرث السياسى للمجتمع المدنى المعاصر، يقابلها عبارة "حماية الانسان وتحسين أوضاعه غاية كافة السياسات والإجراءات". وعلى قدر صحّة العبارة الأولى التى تروّس بها مقدمات القرارات والقوانين والمعاهدات والصفقات والأحكام القضائية المتعلقة بالسجن والطرد والاعدام، تصحّ العبارة الثانية فى ارتباطها بالتجسس الالكتروني: "نرجو ان تلاحظ ان كاميرات المراقبة تعمل لضمان سلامتك".
لقد كان فضح الاتحاد السوفياتى لبنود صفقة "سايكس-بيكو" إثر ثورة اكتوبر 1917 نصراً إعلامياً للشعوب المقهورة يومذاك، لم تعقبه أية فضيحة دولية فى هذا الاطار.
نمط الفضائح انتقل من صعيد الدول والصفقات، إلى الممارسات الداخلية والأشخاص. ففى هذه الفضائح يمكن تمويه مراكز المسؤولية وتزوير البيانات بين اللغط الاعلامى والموظفين الصغار. وكما أن فضائح الاغتيال السياسى فى بلدان أوربية تنسب إلى موظفين صغار فى السفارة يتم "تكبيشهم" فداء لبقاء - الرأس- أو اعتباره حادثاً شخصياً، مثل صور تعذيب السجناء فى "غوانتانامو" أو "أبو غريب"، وتبرئة رجالات الحكومة من وزرها، فأن صفقات "تجارة" التجسس وبيع المعلومات عبر "أفراد" الدوائر الأمنية يسجل فى خانة "الفساد الإداري" والتصرف الشخصي، الذى ينتهى بإقالة الشخص وفتح "تحقيق" إدارى أو قضائى بالموضوع، لإسكات الاعلام والرأى العام. ان ربط السياسات "الأمنية" للبلدان بيافطة "الأمن القومي" كما وثقتها مضاعفات الحادى عشر من سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة الأميركية، منح المؤسسة البوليسية فى بدايات هذا القرن طراز "حماية وسلطة" المؤسسة العسكرية أيام الحروب العالمية فى القرن الماضي. وكما كان شعار "كل شيء من أجل المعركة!" مسوغاً لتجاوزات الدولة وصمت "المواطن"، صار شعار "الأمن أولاً.." -القشة- التى تكسر ظهر المواطن، ومؤسسات المجتمع المدنى الحرّة من أى اعتراض أو نشاط مناهض.
خدمة الكمبيوتر ومصيدة الأنترنت
لا غنى للشخص أو العائلة اليوم عن جهاز كمبيوتر للدراسة أو العمل أو التسلية أو الاتصالات والتواصل مع الأصدقاء والأهل. بل هو يدخل فى معظم مجالات الحياة المعاصرة.
لكن الكمبيوتر ليس مجرد آلة صماء، ويختلف عن الراديو والتلفزيون والثلاجة والغسالة والدراجة، بأنه لا يمكن استخدامه بدون برنامج. وتباع البرامج منفصلة عنه فى السعر، وأحياناً غير مركّبة فى الجهاز. ولا يمكن فى هذه الحالة برمجة الجهاز من غير تسجيله لدى الشركة المنتجة للبرنامج. فى حالات معينة يكون البرنامج مركّباً فى الجهاز لمدة تجريبية، على أن يتم تسجيله خلال ثلاثين يوماً، وعند عدمه يتوقف عمل الجهاز مما يقتضى الاتصال بالجهة المعنية أو شخص مختص لإعادة برمجته، ولا مفرّ فى هذه الحالة من الاتصال بالمجهّز وتسجيل تشغيل البرنامج عنده، بواسطة رقم الانتاج الملصق فى مكان فى قفا الجهاز أو فى مقدمته، مع code برنامج التشغيل. وفى غير ذلك يعتبر تشغيل الجهاز منافياً لحقوق الحماية الدولية ويمكن للجهات الرسمية مصادرة الجهاز فى حملات مداهمة أو تبليغ سرّي. وفى بعض البلدان تمّ مصادرة آلاف الأجهزة لاستخدامها برامج غير مرخّصة. عبر تسجيل الجهاز لدى الجهة المعنية يتطلب تثبيت إسم الشخص وتاريخ تولده وعنوانه ورقم هاتفه، تستطيع الاطلاع على كل العمليات الجارية داخل الجهاز.
ولدى تسجيل عنوان إلكترونى e.mail لدى إحدى الشركات الالكترونية، تجد الاشارة الصريحة، التى تقتضى الاطلاع على سلسلة توصياتها وأنظمة عملها والموافقة عليها بالمصادقة o.k ليتحقق ذلك. ويتطلب تزويد الشركة بجملة معلومات وبيانات شخصية لقاء الموافقة. عبر ذلك تتمتع الشركة الأصلية بإمكانية الاطلاع على المعلومات والعمليات الجارية فى صفحة الشخص أو بريده الالكتروني. ولا يمكن تحديد حجم اتصالاتها وارتباطاتها فى هذا المجال. الجديد هنا، أن الشخص الذى يراقبك لا يجلس معك فى نفس الحجرة، ولا يجعلك تشعر بأنك تحت المراقبة. مع بدء تصفح الشبكة، تظهر جداول تحذير أمنية لا يمكن تجاوزها، وعدم القبول يعيق ظهور الصفحة المطلوبة. ان الجوهر هنا، ان كل ما تفعله ممكن الاطلاع عليه، ويعنى عندها قبول الشخص الضمنى بذلك، مما يبطل أى ادعاء قانونى بالمقاضاة حول المسّ بحقوقه الشخصية.
الهاتف الخلوى "الجوال"
يطلق عليه الانجليز الموبايل Mobile، بينما يدعى فى بلاد أوربا الأخرى Handy وهو يضاهى من حيث التقنية الألكترونية والاستعمالية مذياع الترانسستور [Transistor لدى شيوعه عقب الحرب العالمية الثانية وما حقق من نقلة نوعية فى حضارة الاتصالات. لقد تضاعف انتاج واستهلاك الترانسستور بعد الخمسينيات بما ساهم فى تقريب الأواصر الثقافية "ثقافة االمعلومات" بين أجزاء العالم المتقاصية.
ومع تضاعف كمية انتاج الأجهزة وانتشارها فى جنوب العالم وشرقه، استمرت متناهية فى الصغر، فتجاوزت أحجام "كتب" الجيب، بالإضافة إلى انخفاض أسعارها وشعبيتها. ولكنّ هذا التناهى فى الحجم والتسعيرة ، وضع نهاية لها أيضاً ، عبر ظهور أجيال وأجهزة جديدة، شكلت تعويضاً عن خدمات المذياع "الفقيرة"، مثل أشرطة وأجهزة التسجيل "كاسيت"، وتطور التلفزة و أجهزة عرض الصورة والصوت Video وانتشارها. وإذا كان الترانسستور "المحمول" قد انتهى فى صورة "الهاتف" المحمول الذى يتمتع اليوم بخدمات تقنية لنقل الصوت والصورة وتبادل الايعازات الصورية والصوتية عبر الأثير، فأن أجهزة التلفزة والفيديو قد انعكست فى تقنيات الكمبيوتر وخدمات الأنترنت ذات الشاشة المتناهية فى الصغر والسعة والإمكانيات على صعيد واحد.
هذا التطور التكنولوجى الإلكترونى السريع لم يحقق عادات استهلاكية وطفرات فى الاقتصاد والتجارة، وانما حدّ من استخدام المذياع [Radio] والتلفزة Television بشكل فظيع. وإذا كان من النادر وجود جهاز مذياع لدى قطاعات كبيرة من السكان، لا سيما الشباب، فأن أجهزة التلفزة التى تعانى من منافسة انتحارية مع خدمات الأنترنت، ستشهد انسحاباً فجائيا خلال العقد المقبل، يتحول معه إلى جزء من تراث الأنتيكا Antica. وليس من المستبعد هنا، أن مؤسسات الدولة التى بدأت بخصخصة privatization مؤسسات الإذاعة والتلفزة فى العقدين الماضيين، سوف تلجأ لحماية هذه التقنيات من الانقراض النهائى من الاستعمال، عبر إجراءات وسياسات معينة.
مظاهر خارجيةوغايات خفية
الانتشار الواسع والمتصاعد لخدمة الانترنت والهاتف الجوال، يكشف مساحة الاتصالات الخاضعة للمراقبة، وحجم السكان الخاضعين للمتابعة. وفى حال بنك الجينات الذى يغطى نسب متفاوتة من تقسيمات السكان داخل بريطانيا، تسعى الدوائر المعنية تطويرها لتشمل الجميع، فأن الرقابة الالكترونية عبر استهلاك الأجهزة التقنية والالكترونية الحديثة، تضمن سيطرة أوسع من الناحية الدمغرافية ناهيك عن مميزات عملية أخرى مثل زهد التكلفة واستمرار عملية الرقابة مدى الحياة! وكما هو الحال فى كامرات التجسس الصوتى والصورى فى الأماكن العامة، فهو يعنى الحديث التى لا يتم عبر استخدام الهاتف النقال أو الأنترنت.
أليس للفرد أن يتساءل عن مغزى التطور السريع والرخيص فى هذه المجالات، دون غيرها. هل التكنولوجيا الرأسمالية، التى انطلقت يداً بيد مع الثورة الصناعية وحركة الاستعمار الحديث فى القرن السابع عشر، تتبع الجمعيات الخيرية والمنظمات الانسانية كالصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية والكاريتاس لمساعدة المعوزين والمضطهدين وفقراء الأمم، لتبذل لهم نعمة الموبايل والأنترنت بأسعار رمزية قياساً إلى أسعار الأدوية وبعض الأغذية الأكثر ضرورة ولزوماً لحياة البشر. سيما وأن الأزمة التى تهدد المستقبل تتعلق بالأمن الغذائى "شحة الغذاء" وليس "شحة الاتصالات".
يقول خبراء الاعلام والاتصالات، أن المعنى الحقيقى لانتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 ما كان ليكتمل بدون "ثورة" الترانسستور. بمعنى أن حرص الحلفاء "الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والاتحاد السوفيتى وفرنسا" على النصر المعنوى - الاعلامي- لم يكن أقلّ من حرصها على تحقيق النصر العسكرى الميداني. لقد أدى انتشار الأخبار السيئة فى صفوف المحور إلى انكسار المعنويات القتالية وتقديم هدايا سحرية لقوات العدو. بل أن صدى انتصار الحلفاء فى أفريقيا وآسيا كان أكبر منه داخل أوربا - ميدان المعارك الرئيسية. لقد حوّلت هذه الأجهزة الصغيرة العالم كلّه ساحة لنشر أخبار المعارك وصدى الانتصارات، فكان الصدى الاعلامى لهزيمة المحور "ألمانيا وايطاليا واليابان" فى أفريقيا وآسيا نصراً سياسياًً هيّأ لمرحلة جديدة من النفوذ والتبعية السياسية والاقتصادية فى النصف الثانى من القرن العشرين. حسب هذا المستوى من التفسير، ما كان لأحداث انفجارات نيويورك "2001" هذا الفعل النفسى والدولى بدون خدمات النقل الفضائى المصور للحدث. لقد انتقد كثيرون طريقة عرض قناة BBC للنبأ وما تركه من آثار نفسية هستيرية ومدمرة على نفوس النساء والأطفال والشيوخ والمرضى.
فالتهويل والمبالغة والانتشار، هو الذى حوّل الحدث "المحلي" إلى حدث "عالمي" وهيّأ الرأى العام العالمى لمرحلة ما بعد سبتمبر، التى ما كان يمكن أن تمرّ بلا عقاب أو نتائج سياسية وعسكرية مباشرة. واليوم، بعد أن حدث ما حدث، والشرق الأوسط "الكبير" يتمرغ فى وحل "التخبّط" الأميركي، لا أحد يعنّ له دراسة أصل الظاهرة وعوامل تضخيمها بدل معالجتها وتقليل آثارها التدميرية. لا أحد، يعنّ له تأمل الدور الذى لعبته شبكة الأنترنت حتى الآن، فى خدمة أهداف الحرب "على الإرهاب" بالمفهوم الأميركى الهونتننغتوني. ما هو السرّ وراء التناسل الجرذى للمواقع الإلكترونية الناقلة للأحداث بما فيها تلك المناوئة "ظاهرياً" للأميركان، سواء فى حرب أفغانستان أو حروب العراق. وما هى الفائدة المنعكسة على العرب أو العراق من خدمات الشبكة والمواقع تلك. قد تختلف الآراء كالعادة فى الأمر. ولكن عملياً، حجم الهزيمة "الاعلامية" والتشرذم الاعلامى فى صفوف العرب والعراقيين، أكبر من حجم الهزيمة العسكرية والتشرذم السياسى فى الميدان.
على هذا الصعيد، يمكن تلمس الدور الذى لعبه جهاز الموبايل الصغير فى إثارة الزوبعة الاعلامية لحادث الثلاثين من ديسمبر-كانون الأول فى حفرة مركز استخبارات الكاظمية "العراق" على صعيد الرأى العام الاقليمى والدولي. ان أهمية ما يحدث اليوم فى أى مكان من العالم، ليست فى حجمه وآثاره المباشرة، وانما فى مدى انتشاره الاعلامى ومضاعفاته غير المباشرة. ان كثيراً من المنظمات والجمعيات والواجهات والأحزاب و"الطوائف"، لها وجود "إعلامي" إلكترونى أكثر مما هو كيان حقيقى قائم على الأرض. والعكس صحيح أكثر، أى أن جمعية أو جماعة، بدون تأثير "إعلامي" غير قادرة على الحياة والتواصل. من أوائل الخدمات التى "غزت" العراق عقب الاحتلال هى خدمة الهاتف النقال، ومع تعذر وصول أو استمرار كثير من خدمات البناء وتعمير البنية التحتية، استمرت شركات الهواتف النقالة بجدارة كشركات وحيدة فى ظل الفوضى الأمنية.
النتائج المستخلصة
إذا كانت بداية الترانسستور والكمبيوتر، اتسمت بخدمة الأغراض العسكرية والحربية، فإن غاية خدمات الأنترنت والهاتف الخلوى تصبّ فى خدمة الأغراض الأمنية "البوليسية"، وتسهيل عمليات التجسس الشخصى واختراق حياة الأفراد الخاصة. من الأنظمة المستعملة فى سجون بعض البلدان المتقدمة، جواز قضاء السجناء أوقات محددة أو أعطال دورية خارج مبنى السجن، ودون مرافقة البوليس، بعد ربط جهاز صغير فى رسغ أو قدم السجين، له اتصال مباشر بإدارة البوليس حول مكان وجوده وحركته. ولا بدّ أن كل صاحب هاتف نقال، استلم تلك الرسائل الألكترونية من شركة الاتصالات الخاصة لهاتفه وهى تهنئه لدخوله أجواء البلد الفلانى وتدله إلى امتيازات أسعار الاتصال المدعومة لكل دقيقة، أو اسم الشركة الزميلة التى يمكنه الاتصال بها للاستعلام حول خدماتها.
ان شركة الاتصالات "الهاتفية" المرتبطة بشبكة دولية مقرات أغلبها فى الولايات المتحدة الأميركية، لا تحدد فقط تنقل صاحب "الهاتف" من بلد إلى آخر Roaming، وانما ترصد حركته من مدينة إلى أخرى ومن بقعة لأخرى داخل المدينة، وتميز وجوده فى العراء أو داخل مبنى إلكترونى أو بناء من عدة طوابق أو داخل سيارة، وهى أمور لا يمكن أن تعنّ للفرد أو تخطر فى خيال شاعر. إذا كان ذلك على صعيد تحديد "إحداثيات المكان" بالمفهوم العسكري، فماذا عن التنصت لاتصالاته الهاتفية وأحاديثه المتنوعة والتى يمكن لأى كاتب قصة مبتدئ أو كاتب "ضبط" أن يحصل بجمعها وتوثيقها على أكثر من رواية تجمع بين خصائص الدراما والكوميديا والغزل والجريمة واللغز والأدب المكشوف. ناهيك عن تبادل الأخبار والتعليقات السياسية والدينية والفكرية حسب طبقات المتحادثين والمتواصلين.
قبل عامين، أعلنت الدائرة الفدرالية فى ألمانيا أن الأقراص المتوفرة حتى الآن، تتيح لها إمكانية الاحتفاظ بالاتصالات الهاتفية والالكترونية فى عموم ألمانيا لمدة ثلاث سنوات، وأنها تبحث فى إمكانيات تطوير قدرات الخزن. وثمة تعاون دولى بين الدول المتقدمة والمتحالفة فى هذا المجال. وبهذه الخدمات تم الوصول إلى أكثر من حالة فى ملابسات عمليات الارهاب داخل ألمانيا وأسبانيا وايطاليا، ويتم الكشف بين مدة وأخرى عن جماعات جديدة من شبكات الارهاب أو الدعارة أو المخدرات الدولية.
فى مكان سابق، تمت الاشارة إلى بنوك الجينات فى الدولة العصرية والفايلات الجينية Genfiles فى دوائر الداخلية لكل شخص. وهنا يمكن الحديث عن ملفات إتصالية communication files لكل شخص توثق جميع اتصالاته الصوتية mobile, chat" وصورية email, message على مدى فترة معينة، إن لم تتطور الامكانات لقدرات خزن لسنوات طويلة، بالعشرات أو المئات، بحيث يمكن لأجيال لاحقة الاستفادة من المعلومات الواردة فى بعضها، وربما يستشف من بعضها نبوءات أو معجزات تحدث بعد قرون، كما استشف البشر من نصوص وحفريات العهود القديمة.
طالما غضب بعض أفراد الأجيال السابقة وهم يكتشفون أن أحد عمال الهواتف البريدية يتنصتّ على محادثاته الهاتفية مع صديق أو صديقة، أو أن دارة البريد تلجأ للاطلاع على مضامين رسائله السياسية أو - الغرامية- بعد أن تفتحها بطريقة "البخار"؛ لكن أبناء اليوم يندر أن يغضبوا أو يهتموا لوجود جهة تسجل محادثاتهم او تراجع رسائلهم الالكترونية، أو أن الشبكة ترفض خدمة توصيل رسائل معينة، أو انقطاع خدمة الشبكة أثناء قيامه بعملية منافية لشروط الخدمة أو الحماية الدولية. ان المعادلة فى هذه الحال، غير متوازنة الطرفين.
بين الدولة والفرد، أو بين الشركة "الدولية" والمستهلك. ولا يرى كثيرون، -راضين أو مكرَهين-، ضيراً فى التنصت ومراقبة اتصالاتهم، طالما أن الغرض من ذلك لحمايته وخدمته الشخصية، من الشرّ المتربّص به، أو بالمجتمع المدنى الحديث جراء صراع الثقافات.
فى حقيقة الأمر، وكما أشير فى فصل سابق، أن الفرد "العالمي" اليوم لا يعرف المدى التى تصل إليه معلوماته ولا الأشخاص الذين يتداولون فيها ويعرفون عنه أشياء لا يعتقد أو يذكر أنه يعرفها. الفرد اليوم هو فرد "عالمي" رغماً عنه، وأنه بقدر مواكبته واستهلاكه لخدمات تقنيات الاتصال الحديثة يزداد شهرة وعالمية على أولئك الأقل تداولاً للخدمات الاتصالية أو يتعاملون بها بالكاد. وهذه هى احدى صور القرية "العالمية"، أو حصيلة الأحلام العولمية لمثقفى السبعينيات وهم يتحدثون عن يوم يكون العالم فيه "مجرد قرية صغيرة"، وأن الثورة المقبلة هى ثورة إتصالات ومعلومات.
لا أحد توقع بالتأكيد أن الاتصالات ستخدم التجسس على الحريات الفردية، ومرثاة الرفاه الاجتماعى والمجتمع المثقف وعالم الأمن والإخاء والمساواة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.