المتأمل للنسق الثقافي والسياسي للمجتمعات العربية، يلاحظ فسيفساء، من الاثنيات اللغوية والعرقية، والمذهبية الدينية، والقبلية، والسياسية ذات الايديولوجيات المختلفة.. لكن مؤخراً، بدا هذا النسق في حالة احتدام بين عناصره المختلفة : قومية ضد أخرى، ومذهب ديني ضد مذهب مختلف، وقبيلة ضد قبيلة، وحزب ضد حزب.. يا ترى كيف حدث ذلك ؟! لقد بقت بنياتنا المجتمعية الاثنية والمذهبية والقبلية تنتمي غالباً إلى زمن القرون الوسطى أو ما قبلها وبعدها، وتتصادم مع بعضها على خلفيات متعددة الوجه: فقد لوحظ ان التشكيلات الاثنية الموجودة في عالمنا العربي الإسلامي، جاءت نتيجة لحركة معينة لتاريخ المجتمعات التي سبقتنا، وتحكمت في تشكيلها معطيات جغرافية، وثقافية، وصراعية سياسية، واقتصادية محلية واقليمية ودولية.. وكانت الاثنية كجزء من الهوية تحدد الانتماء إلى جماعة ما القبيلة، الأمة وتميزها على الجماعات الأخرى، وما يتبع ذلك من تحديد لأحقية ملكية الأرض والخيرات والثروات، وتحديد الآخر العدو أو الأجنبي.. إنها كانت آلية من آليات التنظيم المجتمعي، وآلية من آليات الصراع السياسي مع الآخر.. هذه المعطيات التاريخية لازلنا نرثها كما هي، وتتحكم بشكل كبير في منظومة صراعاتنا، وغالباً لا يتعامل مع مسألة الهوية في بعدها التاريخي والنسبي. أما لو تناولنا الصراع المذهبي فإن المذاهب والطوائف الدينية التي نلاحظها الآن هي الأخرى كانت نتيجة لصراع مجتمعي كان يستعمل الدين كأداة لاضفاء الشرعية على سلطة جماعة مذهبية أو طائفية، من خلال قراءاتها التأويلية للديني، وأداعائها ملكية الحقيقة الدينية.. ولكل مذهب تبريراته وتأويلاته الخاصة، والكل يعتمد على مرجعية واحدة : القرآن والأحاديث والسنة النبوية ! ألا تتفقون معي بأن الأمر مجرد صراع دنيوي مبطن بتأويل مصلحي يؤيد أحقية وسلطة هذه الجماعة أو تلك، وبالتالي الصحة المطلقة لقراءاتها وتفسيرها للنص الديني ؟! لكن هل تعدد المذاهب نتيجة فقط للصراع السياسي المصلحي أو هو أيضاً نتيجة لطبيعة النص الديني، الذي يبقى مفتوحاً على التأويل في علاقته بالتاريخ وبخصوصيات كل جماعة ؟! فهل هو عائد لطبيعة المناهج اللغوية المعتمدة في قراءة النص الديني، وبطبيعة وخصوصية هذا العقل القارئ والمؤول للنص الديني ؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحها عدة مفكرين وباحثين مسلمين، قدامى ومحدثين وخرجوا باستنتاجات معرفية وعلمية كشفت الغطاء عن حقيقة قراءة النص الديني بطريقة موضوعية وعلمية، وكشفت حقيقة الصراعات الايديولوجية والمذهبية والمعرفية والسياسية، لكن لا أحد يستمع إليهم.. لان هناك من وجوده السياسي المصلحي مرتبط بمذهب أو آخر، أو ان عقله الديني المكتسب داخل جماعة مذهبية ما، ضعيف ومتحجر. وهنا نسأل : هل من حلول ؟ أظن أولاً، يجب الوعي بخلفيات الصراع الذي يستخدم الاثنى والمذهبي والقبلي في صراعه السياسي النبيل أو الدنيء من اطراف قوى الصراع الداخلية أو الخارجية التي تكرس تاريخياً التفرقة والتجزئة المجمعين في عالمنا العربي الإسلامي لتسهل آلية الضبط والتحكم، واستخدام جماعة وطائفة ضد أخرى لقمع ونفي وتهميش المتمردين. الحلول بسيطة قدمها علماء ومفكرون فضلاء وشرفاء عبر التاريخ القديم والمعاصر منها : الرجوع إلى المرجعية الأصلية للدين الإسلامي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء التشتت المذهبي، بتوحيد المذاهب؛ ثم ابعاد الدين عن الصراع السياسي، وصراع المصالح الضيقة .. وكذلك اعتماد قيم العقل والعلم والمواطنة الواحدة والاخلاق الإنسية الفاضلة الاسلامية أو العالمية في تنظيم المؤسسات والعلاقات والمعارف المجتمعية. إنه يجب الوعي بأننا نخوض صراعات، ليس من صنعنا، نيابة عن ماضٍ متخلف هو من كرسها، ونخوضها بلا وعي ولا عقل، ولا ضمير ديني أو وطني أو إنساني حقيقي يؤطرنا، وعلينا ان نخرج من عبثية هذا الصراع ونتصرف كمواطنين أو مؤمنين، أو بشر حقيقيين، ونخوض الصراعات الحقيقية، كوطن أو أمة، ضد الاستبداد والقهر والتخلف والفقر والبطالة. ان الصراع الحقيقي الذي يجب خوضه هو من أجل الديمقراطية والتنمية والتقدم، وحقوق الإنسان والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، والتحرر من كل أشكال الهيمنة الإمبريالية من أجل السيادة الوطنية، واستقلالية ووطنية القرار السياسي. ذاك هو الصراع الحقيقي، أما صراع الاثنيات والمذاهب والطوائف والقبائل والتيارات هي كلها حواجز ذكية لحجب وتأجيل الصراعات الحقيقية للمجتمعات المغلوبة على أمرها والتي تنشأ حسب مزاج التحكم الاستبدادي والمتسلط الذي يستعمل كل الوسائل الدنيئة للحفاظ على نفوذه الدولي أو الاقليمي أو القطري المستبد.