عندما تتأمل جيداً في وجوه الكثيرين من الناس من حولك وفي عيونهم، وتراقب تصرفاتهم اليومية العادية العفوية المعلنة، وأؤكد "العفوية المعلنة منها" لأن المراقبة تنطوي على أساليب عديدة قد لا تكون مشروعة أحياناً، وهذه لا نعنيها هنا ولا نوصي بها في كل الأوقات، إنما لا بأس من التأمل في التصرفات الظاهرية والظاهرة لليعان في كل مكان ، في مقرات العمل وفي الطرقات والأسواق أول ما سيلفت انتباهك في عيون ووجوه من تراهم في الصباح هي آثار الليلة الماضية وما قبلها بالطبع، وهي آثار معركة حامية الوطيس مع السهر الناجم عن الهموم و«القات». وقلّ أن ترى عيوناً بألوان العيون التي تتحدث عنها وعن مواصفاتها الطبيعية الكتب والبحوث المتخصصة. وقلّ أن تجد وجهاً باسماً أو مبتسماً بثغره الأبيض، حتى تحايا الصباح فقدت مذاقها وبريقها المفترض، ولم تعد حاضرة، والحاضر منها كعادة صباحية اعتاد الناس على تداولها لا تعني الكثير من دلالات ألفاظها وكلماتها، وبعد هذه الصورة الصباحية المرسومة بهموم الأيام الماضية وهموم ذات اليوم الذي تبدأ همومه من صباحه، وهي الهموم التي تستقبل أصحابها من الصباح الباكر بقديمها وجديدها، وبعد ساعات الصباح المثقلة بما سبقها وبما فيها وبالمتوقع قدومه. بعد ذلك تأتي ساعات ما قبل الظهيرة التي تتجه فيها الأنظار ويبدأ التفكير والاهتمام خلالها بالساعات القادمة بعد الظهيرة، وكيف ستمضي وأين، والقات أول هموم هذه الفترة؛ من أين نشتري القات، وأين نخزن. وخلال هذه الساعات التي يحاول فيها البعض أن يتناسى همومه كلها، وهي محاولات غير صحية وغير إيجابية، وقد لا تفلح في عمل شيء؛ لكنها محاولة للهروب من الهم وتأجيله لساعات ما وراء القات.وفي هذه الساعات تتضاعف الهموم وتكبر فوق حجمها الفعلي تحت تأثير التخزينة لتبدأ ليلة جديدة من الصراع مع الهموم والسهر، وعلى هذا تستمر ثلاثية القات والهموم والناس، وفي إطار هذه العلاقة فالهموم حاضرة بحضور القات وغيابه؛ غير أن القات ضاعف وعقّد هموم المعيشة ووسع خارطة الهم لتشمل كل الأوقات والمناسبات واستحدث هموماً خاصة به، وفي نهاية المطاف خلط كل الهموم وجمعها في سلة واحدة. ما دفعني لهذا الطرح هي تلك الصورة الصباحية في عيون ووجوه الكثيرين من آثار وبقايا قات الأمس، وهي صورة لا تمت للصباح ولسماته بصلة. والغريب في هذه الصورة هو أن التذمر والرفض لهذه الحالة واللعنات التي تنصب على رأس القات وجذوره وعلى أسواقه سرعان ما تتحول إلى عشق له وفرحة بقدوم ساعاته، وتتغير كل القناعات التي كانت تناصبه العداء طيلة الليل وساعات الصباح الأولى إلى قناعات أخرى تناقض كل ما كان قبلها، وهذا بدوره يجعل الإنسان يناقض نفسه، وهي حالة مرضية لا مجال إلا للاعتراف بها قبل التفكير في علاجها. وقد رأيت البعض من الناس وقد تنزلت على رأسه هموم الكون جميعها؛ لأن ساعة القات اقتربت ولم يجد بعد قيمة التخزينة. والملاحط أنه في تلك الساعة تتراجع هموم لقمة العيش وبقية الاحتياجات الضرورية أمام هم قيمة القات، وهذا هو الجنون بذاته، وعندما نعرض هنا لمثل هكذا قضية ليس من باب التندر والضحك على الناس؛ ولكن لنقول إننا بحاجة لمراجعة حساباتنا في هذا الجانب، وإعادة فرز الهموم وترتيبها والتخلي عن الأوهام التي تحولت إلى هموم.