قدر مايشعر المرء بالسعادة لتكاثر الجامعات والكليات والمعاهد ومراكز البحث والدراسات في البلاد بقدر مايشعره واقع نشاط هذه المنشآت بالتعاسة، فهي في المحصلة لاتنتج علماً أو معرفة جديدة، بقدر ما تجتر غالباً العتيق البالي الذي كان درسه أساتذة جامعاتنا من نتاج مثيلاتها في العالم، اجتراراً ليته كلياً ملتزماً، لكانت الحال اختلفت، لكنه اجترار جزئي مرتجل، يعتمد نهج «الكروتة» ومفهوم «الكوكتيل» الشبيه إلى حد بعيد بوجبة «العصيد» عسيرة الهضم!!. هذا هو الحاصل وبشهادة القائمين على التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا، لاينكرون في سياق دعواتهم المتكررة لتطوير المناهج وتحديثها مضموناً وأسلوباً، أن معظم هذه المناهج التي تدرس في جامعاتنا«مناهج قديمة وبعضها مضى على إعداده وإقراره للتدريس عشرون عاماً والبعض أكثر بكثير!! وبإضافة أسلوب تدريس هذه المناهج القائم على التلقين والحفظ كما في مدارس التعليم العام تماماً؛ فإن النتيجة لنشاط جامعاتنا هي إنتاج «الطسيس» ولافخر، أو البلادة!! لست من يقول هذا بل واقع مخرجات الجامعات المحلية، الحكومية والأهلية على السواء، تحتاج بعد التخرج وفي حال وفقت بفرص عمل في مجال تخصصها العلمي، لإعادة تأهيل شامل، يبدأ من أبجديات العمل في القطاع المنتمي إليه تخصصهم الجامعي، ويمر بالبديهيات العملية التي اغفلتها الدراسة النظرية في الجامعة، أو أهملت جانب التطبيق عليها، ولايتعدى بالطبع هذه الأبجديات والبديهيات، فتكون النتيجة لنشاط قطاعات العمل هذه،هي التخلف و«الطسيس» أيضاً!!. هذا لأنه وباستثناء ربما «كليات المجتمع» لا صلة للجامعات والمعاهد العلمية المحلية بالمرافق وقطاعات العمل ذات العلاقة بتخصصاتها،بل إنك لاتلمح ملامح ارتباط عملي نفعي بينها والمجتمع بأكمله،على مايزخر به الأخير من مشكلات وعاهات اجتماعية واقتصادية وصحية .. الخ مايفترض أن لاتكون قائمة،بوجود جامعات تتزايد وكليات تتكاثر ومعاهد ومراكز بحث ودراسات تتوالد، على هذا النحو الذي يجري،بينما واقع الحياة محلياً «طسيس» جامداً لايمضي قدماً!!. ربما لأن إنشاء الجامعات والكليات وتحديد نوعها وتوزيعها في بلادنا لايأتي دائماً بالضرورة تلبية لحاجات مجتمعية محددة بدقة وتحقيق غايات تنموية معينة بوضوح ،بل على العكس يخضع إنشاء الجامعات والكليات بما يخضع له من معايير ودواع، إلى معيار وداعي المراضاة وحتى لاتقول محافظة «س» لماذا لايكون لنا ما لمحافظة «ص» حسبما أكد لي وعدد من الصحافيين أكاديمي معروف أثناء ترأسه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، على هامش مؤتمر علمي. المؤسف بحق، أن يحدث هذا، في وقت يفرض التنوع الإقليمي الجغرافي والجيولوجي والحضاري الثقافي في بلادنا، بين أولى معايير إنشاء مرافق التعليم العالي، معايير التنمية والتعليم النوعي الملبي للحاجة المجتمعية والعلاقة الافتراضية بين الجامعة أو الكلية قيد الإنشاء والمجتمع المزمع إنشاؤها فيه كأن يجري إنشاء كلية للزراعة في سهل خصيب كالجوف مثلاً، أو كلية للمعادن في محافظة كثيفة التمعدن كلجوف مثلاً، أو كلية للآثار في موطن تركز حضارة بائدة كمارب مثلاً...الخ. مثل هذا المعيار مازال غائباً في استراتيجية التعليم محلياً، ولهذا نلحظ انفصاماً صارخاً بين نشاط الجامعات والكليات والمعاهد العلمية المحلية وبين المجتمع واحتياجاته ومشكلاته ومتطلبات تقدمه، وبالمثل انفصام أكثر صراخاً وجلاءً بين تخصصات ومستوى جودة مخرجات هذه الجامعات والكليات والمعاهد وبين سوق العمل واحتياجاتها ومواصفات متطلباتها من العمالة، حتى غدا التعليم العالي عندنا عبئاً على التنمية وعائقاً لها، أكثر منه داعماً لها ومذللاً لتحقق خططها!!. يحدث هذا في وقت نلحظ تنامي توجه لتشييد مراكز الدراسات المتخصصة،مثل:مركز العلوم والتكنولوجيا مركز الحاسب الآلي، مركز الدراسات والاستشارات الاقتصادية، مركز التدريب والدراسات السكانية، مركز الأصول الوراثية للنباتات، مركز المياه والبيئة، مركز تطوير التعليم الطبي،مركز دراسات المرأة والتنمية،مركز الدراسات والاستشارات الهندسية،مركز تطوير التعليم الجامعي، مركز الإرشاد التربوي والنفسي، ومركز أبحاث البن والعسل....الخ. عملياً لم تؤت أغلب هذه المراكز ثمارها ولا حققت الغاية المفترضة منها وهي:ربط الجامعة بالمجتمع وإيجاد علاقة نفعية تتعدى تخريج الكوادر الأكاديمية بمختلف التخصصات العلمية،أما لماذا لم تفعل، فذلك عندنا، لأن المفهوم نفسه السائد للجامعة وظيفياً وأدواراً وأهدافاً،انعكس على هذه المراكز المنبثقة عنها، فأحالها أعباءً إضافية، لاتنتج أكثر من إعادة اجترار المعارف النظرية ذاتها، مع فارق قالب الاجترار «حلقات نقاش، ورش عمل، ندوات ،دورات تدريب نظرية ،الخ» في أحسن الأحوال!!. لم نسمع مثلاً، عن نشاط حقيقي لهذه المراكز الجامعية في تقديم الاستشارات العلمية التخصصية أو إعداد الدراسات البحثية لطالبيها من مؤسسات المجتمع العامة والخاصة أو دراسة مختلف المشكلات التي يواجهها المجتمع كل في مجال تخصصه، أو إجراء استطلاعات قياس الرأي العام، أو مسوحات ميدانية، أو إصدار دوريات متخصصة، وغيرها من المهام المعول على مثل هذه المراكز تأديتها وبنشاط وفاعلية ملموسة تؤكد أهمية وجودها وجدوى تطويرها. بينما كان يمكن إيجاد ارتباط فعلي بين الجامعات بمختلف كلياتها المتخصصة وبين المجتمع ومختلف مشكلاته وحاجاته عبر اعتماد مقررات جامعية علمية تطبيقية تكون إلزامية وليس متطلبات جامعية ثانوية، باسم «خدمة المجتمع» ينفذ فيها الطلاب والطالبات خدمات وأنشطة علمية بحثية ميدانية وعملية تطبيقية لخدمة المجتمعات المحلية بحسب التخصصات الدراسية لطلبة كلية من كليات الجامعات وكل قسم من الأقسام العلمية التخصصية في كل كلية. إضافة إلى إقرار نشاط البحث العلمي مرتكزاً أساساً لنشاط ووظيفة الجامعات وبنداً رئيساً لإنفاق 50% على الأقل- من موازناتها الكبيرة- كما نعلم- علاوة على إيرادتها الأكبر - كما نرى- وبما يحقق فعلياً وعملياً وليس قولياً ولا نظرياً، دور الجامعات بمختلف كلياتها وأقسامها، في حل مشكلات المجتمع بمختلف فئاته وقطاعاته. عبر اكتشافات علمية جديدة وجديرة، وعبر نشاطات عملية مؤثرة ومجدية تسهم بحق في الرقي بالمجتمع للأفضل. كذلك يمكن إيجاد هذا الارتباط بإنشاء «مكتب استرشاد منهجي» يُنفذ أبحاثاً علمية لمعرفة مشكلات المجتمع في كل تخصص من تخصصات كليات الجامعة، ويعقد حلقات نقاش بحثية منهجية بين مسئولي مؤسسات المجتمع العامة والمدنية وقطاعات العمل (العامة والخاصة) وبين القائمين على المناهج في مختلف التخصصات من ناحية، وبينهم وبين الطلبة في مختلف الكليات والأقسام، ولغاية استكشاف متطلبات المجتمع، وسوق العمل، ومواصفات المخرجات الجامعية المطلوبة. على أن تصحيح مسار نشاط الجامعات والكليات والمعاهد العلمية في بلادنا وجودة مخرجاتها باتجاه دعم مسار التنمية وتذليل تنفيذ خططها، يتطلب أيضاً إعمال نظام القبول في الجامعات الغربية والعربية الخليجية أيضاً القائم على اعتماد «اختبار القدرات العامة» للمتقدمين معياراً إضافياً بنسبة إلى جانب معيار معدل النجاح في الثانوية العامة، وبنسبة (30- 40%) من معدل القبول العام بالجامعات والتوزيع التخصصي على الكليات، وهذا يتطلب إنشاء مركز وطني للتقويم والتطوير الأكاديمي. مثل هذا المركز الوطني يفترض به أن يعنى بتصحيح وتقويم نتائج «اختبار القدرات العامة» بذات سرية واستقلالية كنترول وزارة التربية والتعليم بالنسبة لاختبارات الشهادتين العامة لمرحلتي التعليم الأساسي والتعليم الثانوي، والأخير لابد أن يخضع قبول وتوزيع خريجي التعليم الأساسي في مختلف فروعه (العلمي، الأدبي، التجاري، الصناعي أو الفني..الخ)، لنظام «اختبار الميول والقدرات العامة» كحل عملي للحد من أعباء ظاهرة الرسوب المتكرر والتحويل بينها، ومنه انتقالها للجامعات. هذه الحلول وبتقديمها أولاً إقرار تعديل مفهوم التعليم بمختلف مراحلة من «التلقين والحفظ والاسترجاع في دفتر الاختبار»، إلى مفهوم «تعليم الطالب كيف يتعلم ويكتسب المعرفة ويفكر ويبحث».. كفيلة بإصلاح مسار التعليم في بلادنا(العام، والثانوي، والفني، والعالي)، وتوزيع القدرات البشرية للمجتمع توزيعاً متوازناً يضمن جودة تأهيل هذه القدرات وجودة استثمار طاقاتها، دون إهدار للمال العام، أو لطاقات هذه القدرات ودون تعثر وإبطاء عجلة التنمية أو تغذية البطالة المقنعة. [email protected]