إنهم ينتظرون، لكنك لا تعلم ما الذي ينتظرونه ولا هم يعلمون، وعلى هذا الحال تمضي الأيام وتتوالى الأعوام، لا جديد في اليوم عن الأمس، وحده الانتظار الحاضر في كل لحظة يفتح الأبواب والنوافذ فلا يأتي منها شيء سوى الغبار والرياح غير العليلة. الفراغ المطبق على كل الأوقات هو الذي أوجد الانتظار وفرضه على الذين رمى بهم الحظ إلى ما هم عليه وما هم فيه، وهذا الحديث هنا ليس مدخلاً لقصة أو رواية من نسج الخيال، بل لما يجرى على أرض الواقع في أكثر من مكان وأكثر من منشأة عامة؛ ولكن بنسب متفاوتة، فقد ساقتني الأسباب ذات مرة بصحبة آخرين إلى واحدة من تلك المنشآت لنستفيد مما يعملون ويعلمون؛ كنا نبحث عن فوائد معرفية بحكم طبيعة العمل البحثي في هذه المنشأة التي تحتل مساحة شاسعة ومكاتب وتجهيزات مختلفة، غير أن مهمتنا لم يكتب لها النجاح؛ لأننا لم نجد سوى أناس بأحضان الانتظار؛ يعدّون الدقائق؛ متى ستنتهي ساعات الدوام التي تمضي عليهم ببطء شديد في حضرة الفراغ. واحد منهم فقط خرج من شرنقة الصمت والأعذار الواهية حين تكاثرت الأسئلة والتساؤلات عما أراد المخرج؛ ولم يفصح عن شخصية هذا المخرج، ولماذا قبلوا كل هؤلاء بما يريده المخرج، ولماذا قبلوا هذا الدور القاتل فعلاً؟! أسئلة كثيرة تبقى هناك تبحث عن إجابات مقنعة. - كثيرون هم الذين لا عمل لهم سوى انتظار المرتب طيلة أيام الشهر، وأستطيع أن أجزم ان كل مؤسسة أو مصلحة تضم بين أقسامها وإداراتها المختلفة من يعملون على انتظار المرتب فقط.. ربما يكون هذا الوضع قد فرض عليهم لسبب أو لآخر، لكنهم قبلوا بهكذا وضع.. قبلوا بالانتظار حاكماً على كل أوقاتهم فقبلوا بانتظار الموت، فهذا الحال عندما يطول ويستمر لا يوصف صاحبه إلا بمن ينتظر عزرائيل فقط.!!. العمل ينتهي بمجرد التوقيع على حافظات الدوام، ثم انتظار ساعة العودة إلى المنزل، هكذا تمضي الأعوام، انه أمر قاتل حقاً أن ترى منشآت بأحجارها المنقوشة الملونة ومساحاتها الشاسعة وقد صار من فيها ينتظر التقاعد أو الموت، فالانتظار الناجم عن الفراغ قد فعل بالكثيرين ما فعل هماً ويأساً غير ان الهم هذا من النوع الصامت الذي لا يدفع بصاحبه للبحث عن منفذ للخروج من دائرة الفراغ والانتظار، فقد أزمن الانتظار وخلف الكسل وأغلق أمام المنتظرين كل الأبواب. - طاقات كثيرة أهدرت وتهدر في مجابهة الفراغ ومقاومة الانتظار يمكن ان تستغل في أماكن أخرى غير أن المشكلة تكمن في الصمت أولاً ثم بعدم السماع عندما تتعالى الأصوات الرافضة لمثل هكذا وضع. سمعنا ونسمع بين الحين والآخر عن موظفين يشتكون من ألم الفراغ والانتظار وسوء أحوالهم وأنهم لم يعودوا يفعلون شيئاً سوى انتظار الموت فقط في أماكن أعمالهم فلا يسمعهم أحد، أو لا أحد يريد أن يسمعهم، وبعد محاولات عديدة يعودون أدراج الصمت ويقبلون بالفراغ والحياة بأحضان الانتظار، ويبقى السؤال بانتظار: ماذا، وإلى متى؟!. ولا جواب لهذا السؤال في الوقت الراهن، المهم «تجزع أيام» ولا أهمية للكيفية التي تمر بها الأيام، هكذا قالها أحدهم وهو يقطر ألماً ويأساً وحيرة، ولا أخفيكم أنني احترت في الأمر معه رغم بساطة الحل؛ غير أن هذا الحل البسيط السهل قد يجعل منه البعض بالغ التعقيد والعقد. والمعاملات الطويلة هي أشد العقد والتعقيدات، وهل يستطيع من لا يجد عملاً في هذه المؤسسة أن ينتقل إلى مؤسسة أخرى بحاجة لخدماته بسهولة؟!. الجواب لا يحتاج لإيضاح والسلام..