المتتبع لأدبيات التنمية المختلفة سيلحظ تزايد الاهتمام بقضايا الفساد منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي،وهي المرحلة التي عرفت استشراء ظاهرة الفساد بشكل ملحوظ في العديد من المجتمعات البشرية،وتحوله من ظاهرة محلية إلى ظاهرة عالمية تستوجب التعاون الدولي تشارك فيه الحكومات،والبرلمانات، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية،ووسائل الإعلام المختلفة، إلى جانب مساهمة مؤسسات القطاع الخاص لمواجهتها وإبداء قدر أكبر من الاهتمام بإعادة النظر في الترتيبات الحالية لمواجهة الفساد،ووضع استراتيجيات يتم تحديثها باستمرار لضمان مواجهة المشكلات الناجمة عن كل صور الفساد المعاصرة. والملاحظ أن تلك الجهود لم تقتصر على الدول المتقدمة،وإنما شملت أيضاً الدول النامية التي تعاني اقتصادياتها ومجتمعاتها من تفشي هذه الظاهرة بصورة أكبر مما تعانيه الدول المتقدمة،حتى أضحى موضوع مكافحة الفساد يحظى بالأولوية في قائمة اهتمامات الحكومات في الدول النامية،ويرجع الاهتمام بقضايا الفساد في الدول النامية لعدة أسباب،من أهمها: 1 الكساد واختلال الميزان الاجتماعي بسبب سياسات الاصلاح الهيكلي في غالبية الدول النامية. 2 ظهور شريحة اجتماعية غنية في العقدين المنصرمين استفادت من التحولات في السياسات الداخلية للدول النامية والدول التي تمر بمرحلة التحول وانفتاح هذه الدول على العالم ،بعد أن كانت مجتمعات منغلقة .3 انتشار الفساد في الأوساط السياسية،وخاصة منهم أصحاب المناصب الرفيعة في تلك الدول. 4 ظهور قوى معارضة في الدول النامية تدعو إلى مكافحة الفساد وفضح رموزه. 5 الاهتمام الدولي المتزايد بهذه الظاهرة وخاصة من قبل المنظمات ومؤسسات التمويل الدولية،التي تربط تقديم قروضها بتبني الدول المقترضة لسياسات وبرامج محاربة الفساد في مجتمعاتها. للأسباب السالفة الذكر وغيرها،كثر الحديث عن الفساد،وسبل مكافحته،وقد يصل المرء منا إلى خلاصة مفادها أن ظاهرة الفساد في مجتمعاتنا المعاصرة لم تعد في حاجة إلى مزيد ايضاح أو دراسة؛إذ انبرى الجميع ومن مختلف التخصصات الإنسانية والاجتماعية للحديث عنها وتحديد اسبابها ومسبباتها ونتائجها الكارثية على مجتمعاتنا واقتصادياتنا،ووضع الحلول والبرامج للحد من آثارها؛ومكافحتها نظراً للآثار السلبية للفساد على التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية،وأنه ليس علينا سوى تطبيق تلك «الروشتات» أو البرامج والخطط والوصفات الجاهزة الكفيلة بالقضاء على هذه الظاهرة والوصول إلى المجتمع الفاضل أو المثالي الذي يخلو من كل مظهر سيء.،والحق أن هذه الخلاصة الأمنية مشروعة وصائبة في جزء منها،وخاطئة كلياً في أجزاء عديدة منها. فهي صائبة في الجزء المتعلق بأننا في حاجة إلى تطبيق مختلف البرامج والخطط الموضوعة لمكافحة الفساد وبؤره المنتشرة في مجتمعاتنا،وهي خاطئة في توقعها إمكانية القضاء كلياً على كل مظهر من مظاهر الفساد،ويعوزها العمق في التحليل ومحدودية الاستنتاجات، ويغيب عنها استقراء تاريخ المجتمعات البشرية عبر القرون الماضية؛إذعرفت أشكالاً مختلفة من مظاهر الفساد تغيرت بمرور الزمن،كما شهدت صراعاً بين الخير والشر،وبين الفساد والإصلاح ،وكانت للجانبين صولات وجولات لم تنته أبداً بغلبة كلية لأحدهما على الآخر،وربما سيبقى هذا الصراع مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يجرنا هذا الأمر إلى الحديث عن الفساد الخلقي،الذي يعد واحداً من المظاهر المتعددة للفساد ،وربما هو البعد الذي لم يحظ بنفس القدر من الاهتمام من لدن الباحثين والدارسين لأوضاع مجتمعاتنا المعاصرة،ربما لتداخله مع العديد من مظاهر الفساد الإداري والسياسي،وتشير مظاهر الفساد الأخلاقي إلى الانحرافات الأخلاقية والسلوكية والمخالفات المتعلقة بمسلك الموظف الشخصي وتصرفاته،كأن يرتكب فعلاً فاضحاً مخلاً بالحياء في أماكن العمل أو أن يلعب القمار أو يستعمل المخدرات،أو أن يسيء إلى مصلحة الجمهور أو أن يطلب من أي كان هدية أوعمولة أو بقشيشاً«الرشوة» أو أن يجمع بين الوظيفة وأعمال أخرى خارجية دون اذن إدارته ،أو أن يستغل السلطة لتحقيق مآرب شخصية له على حساب المصلحة العامة،أو أن يمارس المحسوبية بشكلها الاجتماعي،الذي يسمى «المحاباة الشخصية» والذي يعني اختيار الأقارب والمعروفين والأصدقاء وأبناء العشيرة الواحدة والمدينة الواحدة و«المحسوبية السياسية» التي لا تتوقف عند حدود اختيار الموالين سياسياً وحزبياً فحسب،وإنما تلك التي تمتد إلى معاقبة الخصوم السياسيين والحزبيين بحرمانهم ،بل وفصلهم من الوظائف العامة،دون النظر إلى اعتبارات الكفاءة والجدارة. الواقع أن هذا المظهر يعد من أكثر المظاهر التي تحتاج منا إلى وقفة جادة بقصد الدراسة والتحليل للأسباب التي قادت إلى تلك التحولات الكبيرة في اخلاقيات أفراد مجتمعنا اليمني،وتحديد كافة العوامل التي أدت إليها،ولعدم كفاية الحيز المتاح للمقال،نذكر منها:عامل الفقر وعدم كفاية المرتبات أو الأجور لتغطية الحد الأدنى من مستويات المعيشة المقبولة يزيد من وطأتها الارتفاعات المبالغ فيها لأسعار المواد التموينية والسلع الأساسية،ضعف الرقابة الرسمية والشعبية الفاعلة في الحد من استشراء بعض الظواهرالسلبية في مجتمعنا اليمني،وظاهرة استغلال المنصب الرسمي،إلى جانب عدم تطبيق القوانين في حالات التلبس بجرم الفساد وهو ما يشيع لدى البعض نوعاً من الثقافة التي تستحل الحرام وتبيح المحظور «يزيد منها اضمحلال الوازع الديني وسوء التربية الأسرية» شيوع سياسة المحاباة والمجاملة المنتشرة في أوساط العديد من مؤسساتنا الرسمية وغيرها مما يضيق بها هذا الحيز الصغير. ونشير في خاتمة هذه التناولة إلى أن الفساد ليس مرتبطاً بالضرورة بالوظيفة العامة أو المال العام ؛ حيث يوضح أحد الباحثين:«إنه على الرغم من أن كثيراً من الناس ينزعون إلى اعتبار الفساد خطيئة حكومية تمارس ضمن الوظيفة العامة،فإن الفساد موجود في القطاع الخاص أيضاً،بل إن القطاع الخاص متورط إلى حد كبير في معظم اشكال الفساد الحكومي . وإن أحد التعاريف المهمة الأخرى للفساد هو «استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة مثل الرشوة والابتزاز» وهما ينطويان بالضرورة كما يرى على مشاركة طرفين على الأقل قد يكون أحدهما منتمياً إلى القطاع الخاص،ويشمل أيضاً أنواعاً أخرى من ارتكاب الأعمال المحظورة التي يستطيع المسئول العمومي القيام بها بمفرده ومن بينها الاحتيال والاختلاس ،وذلك عندما يقوم السياسيون وكبار المسئولين بتخصيص الأصول العامة لاستخدام خاص،واختلاس الأموال العامة ويكون لذلك آثار معاكسة واضحة ومباشرة على التنمية الاقتصادية،ويزيد من شدة الضيق الشعبي والتبرم من السياسات المتبعة،لاتحتاج تبعاتها إلى مزيد من المناقشة. - استاذ العلوم السياسية المساعد جامعة إب