الكتابة دنيا مليئة بالاحتمالات وحافلة بالتحولات ، في ساحاتها تولد الغرائب والعجائب ، مرئيات نواطق وأخرى عجماوات ، وعلى الكاتب أن يجهد نفسه في ملاحقة الولادات التي نادراً ما تأتي في مواقيتها فقد تهاجمك في المنام وقد تستولي على وجدانك وأنت خلف مقود السيارة أو في مكان عام لا تستطيع فيه الذهول والجري وراءها حافياً للإمساك بمئات الفراشات التي تقمصت صورها وتلبست ألوانها. لكم تراوغ الفكرة! ، إنها كالسراب ما إن تعتقد أنك اقتربت منه حتى تجده قد ابتعد ، إذاً عليك أن تحبس يدك وتقوس أصابعك لتصنع سرابك الخاص على الورق ، لكم يبدو عسيراً رسم السراب! ، إنه يقلد اخاه الصحراوي فيهرب وعليك ألا تجعله يتلاشى فهنا على الورقة البيضاء يمكن إمساكه من أنفه وتثبيته بسن القلم ثم تحبيره حتى يذعن لملكوت الكاتب ، وحين يرى نفسه في المرآة لاحقاً وقد اطلقت عليه اسمه الجديد يصبح فخوراً بك وبنفسه .. هي عملية ترويض شاقة فالأفكار.. الكلمات كالأحصنة الغرة أو كالمهور غير المدربة تحتاج إلى العناء حتى تدرك المعنى وتقوم بالمطلوب منها تماماً. في البداية تدافع عن حريتها التي اختبرتها وبعد التدريب والاذعان تدرك أن حريتها لا تخرج عن قانون الضرورة وإن طريق الراحة التعب كما يقول البردوني ، كذلك هي الكلمة تتمرد وتشرد قبل أن تدرك أن وجودها ذاته يكمن في تواجدها مع غيرها ضمن نسق عاشق ، وأن عقد الزهور على صور الكاعب الحسناء هو غيره مرمياً على طاولة أو مبعثراً على غير نظام،مذاق الكتابة يأتي من لمسات لا تُرى كماهو شأن عاشقين يتخالسان النظر دون أن يدرك سرهما أحد. الكتابة عشق حميمي خالص ؛ لذلك يكره الكاتب من يحاول أن يطلع على أوراقه خلسة؛ لأن مثله مثل من ينظر إلى مايجري داخل غرفة من ثقب المفتاح ، ربما يتبين المهتمون طريقة الشاعر أو الروائي في تشييد عمارته بعد انتهاء الولادة وإعلان قصة الحب وذلك من المسودات التي يتركها للريح وراءه ، ولكن كثيرين يمحون كل أثر إلا المأثور الأخير وهؤلاء يحتاج تتبع خطاهم إلى قصاصي الأثر الأدبي وهم في زماننا أندر من الكبريت الأحمر،وهؤلاء مهما قالوا وأعادوا سيظلون في دائرة الاجتهاد واللايقيني.. طبعاً نحن نتحدث عن كتاب وكتابة دون حاجة إلى التعريفات ، فقد يوجد في المدينة الواحدة عشرات الكتاب وبينهم كاتب أو كاتبان أو ثلاثة ينطبق عليهم قول الشاعر : إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحداً الكتابة حين تسأم تقول لك: تحدث عني ، ولا تدعني دائماً أتحدث عن غيري ، ألا تراني جميلة وموهوبة وعاشقة أزلية وحين ترد عليها بالقول أن رسالتها ورسالتك أن تنطقا الكائنات التي لا تنطق ترد عليك: إنني أفهم ذلك تماماً ، ولكن دعني مرة أفرح بنفسي وخذ مئات المرات للعجماوات .. ليكن .. أيتها الكتابة.. كم من الأفراح والأتراح تحملين على كاهلك.