إنهم يضربون المتظاهرين بقسوة.. أنا لا أعرف كيف يتحمل هؤلاء الناس كل هذا الإيذاء؟! لقد شاهدت قوات الأمن تعتقل حوالي خمسة أشخاص في الشوارع.. «يقول شاهد عيان». على إثر ذلك ومن بروكسيل، حيث تجمع المئات يحملون زهوراً صفراء «اللون المميز للمعارضة في بورما» مروراً بباريس وبرلين وكولون وهونغ كونغ، إلى دلهي، حيث طالب المشاركون في مسيرة، الحكومة الهندية باستخدام نفوذها لإنهاء العنف في بورما. عدة مدن في أنحاء العالم تشهد مسيرات ومظاهرات تندد بما يجرى في بورما، وتطالب السلطات هناك بالتوقف عن قمع الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية. المبعوث الخاص للأمم المتحدة إبراهيم جمباري يصل أيضاً إلى بورما بهدف حث القادة العسكريين الذين يحكمون البلاد على ضرورة إنهاء قمع المظاهرات المطالبة بالديمقراطية. وتزامناً مع ذلك تعلن محطة الضوء الجديد الرسمية في ميانمار، السبت أن قوات الأمن توخت الحذر في تعاملها مع المتظاهرين مستخدمة أقل قدر من القوة. لم يطرأ جديد في بورما منذ ثورة عام 1988 فالفقر والمعاناة لم يتغيرا منذ عقود، والعزلة المفروضة على هذا البلد ليست بالأمر الجديد، والمعارضة المدنية بزعامة أونج سان سوتشي مازالت غير فاعلة بالرغم من الدعم الدولي لها، فما الذي تغير في بورما ليتحرك الشعب على هذا النحو؟ ثمة دور قوي يلعبه الدين البوذي في حياة هذا الشعب الذي يغلب عليه معتنقو البوذية.. ثمة أسباب لهذا التحرك على رأسها الرهبان البوذيون إذاً. فهؤلاء ورغم ظروفهم الحياتية الصعبة يعيش أغلبهم دون مياه شرب نقية أو كهرباء، يحرصون على التردد يومياً على المعابد البوذية المنتشرة في كل مكان وأبرزها معبد شواداجون باجودا العملاق في العاصمة يانجون (رانجو) حيث يقدمون تبرعاتهم البسيطة التي تتحول إلى مزيد من التماثيل الذهبية لبوذا. وتعد البوذية ديانة نحو 87 % من سكان بورما البالغ عددهم خمسة وخمسين مليون نسمة.. وقد بدأت احتجاجات الرهبان البوذيين في هدوء وصمت، لكن سرعان ما تطورت إلى احتجاجات صاخبة وشوهد الرهبان وهم يهتفون بأصوات غاضبة. كان للرهبان دائماً وجهان في تاريخ بورما، ففي سنوات الاحتلال البريطاني الذي استمر من 1886 إلى 1948 كانوا رمزاً للمقاومة.. حيث تظاهروا ضد البريطانيين عندما دخلوا المعابد دون خلع أحذيتهم.. ولا تزال للرهبان هيبتهم، كما يقول المراقبون، حتى عند القادة العسكريين الذين انقلبوا على الحكومة المدنية في 1962م. ولعل هذه الهيبة هي التي حالت حتى الآن دون قمع الاحتجاجات بنفس العنف الذي حدث في عام 1988 عندما قتل نحو 3 آلاف فيما عرف باتنفاضة الطلبة. القادة العسكريون لم يسلموا مقاليد الحكم منذ عام 1962 إلى أي حكومة مدنية أخرى بالرغم من فوز المعارضة بزعامة أونج سان سوكي ب80 % من المقاعد في البرلمان في أول انتخابات حرة عام 1990 . يقول كين مونغ وين نائب مدير تلفزيون المعارضة الذي يبث من النرويج: في عام 1988 قتل ثلاثة آلاف بورمي لأن بورما كانت معزولة تماماً ولم يكن المجتمع الدولي مهتماً حينها ولكن العالم كله الآن يتابع ما يحدث. كانت بورما التي تغطي الغابات أكثر من 50 % من مساحتها أكبر مصدر للأرز في العالم إبان الاحتلال أما الآن فتستورد الأرز، ورغم غناها بالموارد الطبيعية إلا أنها اليوم من أفقر الدول عالمياً نتيجة السياسات الاقتصادية للقيادة العسكرية والعقوبات الغربية المفروضة عليها. تحظى الديانة البوذية بدعم النخبة العسكرية الحاكمة، وهم من الضباط البوذيين طبعاً، الذين يحرصون على إبراز تدينهم، حيث نجد مساحات واسعة من ساعات البث التفلزيوني القليلة تفرد لإبراز زيارات القادة العسكريين للمعابد وبشكل يكاد يكون يومياً، وفي مقابل هذا التدليل نجد أنهم الملايين من المسلمين والمسيحيين هناك يتعرضون للاضطهاد إلى درجة أنهم لا يستطيعون استخدام أسمائهم العربية أو الغربية في بطاقات الهوية وإنما الأسماء البوذية. لم يكن هناك من مستفيد إلى جانب السلطة العسكرية من الوضع سوى القائمين على الديانة البوذية في بورما فلماذا يتمرد الرهبان البوذيون على العسكر وبهذا الحجم الكبير، حيث يشارك الآلاف منهم في المظاهرات التي بدأت محدودة بعد رفع أسعار الوقود مؤخراً؟! لعل الاهتمام الذي انصب مؤخراً على هذا البلد مع ظهور مؤشرات نفطية واعدة فيه ولاشك أن مثل هذا العامل على تحريك المياه الراكدة سواء من داخل أم خارج بورما. إلى جانب ذلك ياتي اهتزاز جبهة النخبة العسكرية بعد نزاع السلطة الذي اندلع بين قائد المجلس العسكري الحاكم الجنرال ثان شوي ورئيس وزرائه خين نيونت الذي كان يتولى قيادة الاستخبارات العسكرية التي كانت تمسك بالبلاد بيد من حديد وقد أدى الصدام إلى احتلال الجيش مقر قيادة الاستخبارات العسكرية وما أعقب ذلك من تدمير قدرتها على تحدي الجيش.. لهذه الأسباب وغيرها تحرك شعب بورما الذي يعاني الفقر والجهل، بينما يحيط ببلاده عمالقة ونمور اقتصاديون مثل الصين والهند وتايلاند وماليزيا. [email protected]