في جنوب أفريقيا العنصرية، وبعد أن توج نضال شعبها الأفريقي الأسود بالنصر بقيادة المصلح الكبير نيلسون مانديلا.. ولكي يقضي مانديلا على آثار قرون ماضية من الاستئثار والقهر والظلم والوحشية في التعذيب والقتل من قبل البيض ضد شعب جنوب أفريقيا الأصلي؛ رفع شعار المصارحة والمصالحة.. وهذا الشعار يعني ببساطة أيها البيض الذين عذبونا وقتلونا إن أردتم أن تعيشوا معنا بسلام فعليكم أن تعترفوا أفراداً وجماعات بما اقترفتموه في حقنا نحن السود وبصراحة كاملة، ثم نتصالح بعدها، وهو يقول للسود إن فعل إخوانكم البيض ذلك فسامحوهم وهذا يكفي، والاعتراف بالذنب يكون مقدمة التوبة بل هو التوبة عينها منه.. وهكذا سارت الأمور في ذلك البلد الذي ذاق مرارة الحكم العنصري لوجود مصلح كبير مثل مانديلا لم يتردد في التعبير مراراً عن تأثره وإعجابه بمسلك نبي البشرية محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في مسلكه هذا وكل مسالك التسامح والجهاد الذي خاضها. في بلادنا ظهر منذ شهور تيار لا تخفى غاياته مثلما لا تخفى شخوصه وخلفياته؛ بدأ بمطالب حق في الغالب، وانتهى به الأمر بباطل صريح يتخذ له وجوهاً مختلفة من الفتنة؛ كان آخرها ما سمي بحركة المصالحة والتسامح في ذكرى مجزرة 13يناير. وكلنا نعرف أن مذبحة يناير كان طرفاها حزباً واحداً.. وقد كان ما كان، ويعلم الناس أجمعين أن موقف أشقاء الشمال بشخص رئيس الجمهورية بالذات من الفتنة كان في مستوى السمو والتفاني والحرص الذي لا يثير غباراً حوله أحد، ولايزال هذا الموقف قائماً في معالجة الآثار. وبالتالي فعندما نسمع عن حركة التصالح والتسامح فإننا نتوقع أن يقوم الطرف المتآمر الذي فجّر الأحداث وقام بالمذابح بتقديم نفسه كأفراد لأسر الضحايا ويعترف كل منهم بما اقترفه من آثام وذنوب، وكم من البشر قتل، وكم نهب، وكم شرد، وكم انتهك من الأعراض؛ وبالتالي يطلب من ضحاياه أو ورثتهم مسامحته عما اقترف، وتلك هي شروط التوبة النصوح مع العزم الأكيد على عدم العودة لمثلها. ولكن هذا لم يحدث، والذي حدث هو العكس، فالقتلة يتسترون وراء بعضهم، ويطالبون غيرهم بالتسامح مع سبق الإصرار على قتل وانتهاك وإثارة فتنة جديدة في كل يوم من أيامهم تلك. ما شأن شعب اليمن المسالم المتآخي الذي وقع ضحية حروب مثل هؤلاء وثاراتهم، ما شأنه في رغبتهم بالتصالح إن وجدت، ولماذا يريدوننا أن نعيش معهم دموية هذا التسامح من جديد كما حدث بالأمس ويحدث من قبلها؟!. أما كان جديراً بهم أن يذهبوا إلى القرى والأحياء التي تقطنها أسر ضحاياهم على امتداد الوطن اليمني ليسمعونا من هذه المواقع تعبيراتهم الصادقة عن جرائمهم واعترافهم بها ووضع نفوسهم بين أيدي أولياء الدم كي يقتصوا منهم أو يعفوا عنهم، فلماذا يلجأون إلى جعل المناسبة مقدمة لمذابح جديدة، وممن يطلبون التسامح الذي يريدونه، ومع من المصالحة؟!. أتذكر مقابلة أجرتها مجلة عربية تصدر في أوروبا مع الرئيس علي سالم البيض حينذاك بعد أحداث يناير، وقد أشار الصحافي إلى ان البيض كان يضع يده على بطنه من آثار الإصابة التي كان يتعالج معها والتي أصابته يوم 13يناير وهو يقص عليه القصة، كان ذلك عام 87م، وكان مما قاله عن هذه الأحداث أمر مريع حقاً؛ وهو أن سبعة عشر ضابطاً كانوا حديثي التخرج تم قتلهم من جانب رفاقهم واستخرجت قلوبهم من صدورهم، وكتب على كل قلب "هذا قلب الرفيق فلان بن فلان" هذا وجه من وجوه البشاعة التي لو سمعنا اعترافاً ممن قام بها الآن لصدقنا أن هناك رغبة في التوبة والتصالح، لكن الأمر على نحو آخر، فهو على الأرجح وبألف قرينة ودليل مقدمة لأعمال مثلها. نحن نعرف أن رموز المشروع الأمريكي المسمى ب"الفوضى الخلاقة" هم أصحاب كل هذا الضجيج والإثارة، ونعرف أن واجب الدولة وكل أجهزتها هو المواجهة المسئولة لهذا المشروع الهادف إلى تدمير مجتمعنا.. ونعلم أن الشر الذي يمثله هؤلاء لن ينتهي بالتسامح بل بالحزم.. فالحق واضح والباطل واضح، فيما يدور وترك الأمور على عواهنها.. يطمع أهل الباطل في تفجير الأوضاع. وكل هذه الممارسات كما يتجلى واضحاً من أحاديث أصحابها وقياداتهم في الداخل والخارج هي محاولات للضغط على النظام القائم للتنازل عن سيادة الوطن كما هو الحال في املاءات السفير الأمريكي الأخيرة، فليس مستغرباً أن تأتي مطالبة السفير الأمريكي لليمن بتسليمها مواطنيها إلى أمريكا كي تتصرف بهم كما تشاء بعد سلسلة من هذه الاعتصامات والتجمعات المشابهة وقبل تجمع الأمس ليقول لنا إما أن تستجيبوا وإلا فسنستمر في تحريك هذه الدمى التي لا يجمعها إلا قاسم مشترك واحد وهو إثارة الفتنة وعدم المسئولية في طرح مشاريع لحلول أي من المشاكل التي يشكون منها، بل الاكتفاء بالنعيق حول الفساد والظلم والغلاء وغيرها، مع أن المطلوب هو تقديم مشاريع للحلول، وإلزام الدولة بها حين تكون ناضجة وصادقة، ولا يرتجى فيها غير وجه الله ونفع الوطن والشعب الذي يعاني. أما الضجيج والشكوى بغير تقديم البدائل والحلول، فهي الفتنة بعينها، كما أن رفض الجلوس مع الدولة ورموزها من أصحاب القرار لمناقشة مشاريع التغيير، واللجوء إلى هذه الإثارات على مستوى الشارع يفضح نوايا أصحابها. إننا نطالب الدولة أن تضع حداً لهذه المظاهر المثيرة للفتنة، فالفتنة أكبر من القتل، ونطالب من له رؤى حقيقية للتغيير أن يقدم مشاريعه للدولة، فإن رفضتها عرضها علينا نحن الناس لنتبناها ونخوض معهم نضالاً حقيقياً لإجبارها على قبولها إن صدقوا.